Select your language

logo16

السياسة الروسية وتحدي الجغرافيا

Govet / Russische Föderationيعرف عن الرئيس فلادمير بوتين أنه شخص مؤمن ومتدين. ومن النكات التي يتداولها السياسيون عنه، أنه يسأل الله في كل صلاة، "ربي لما لم تخلق بعض الجبال في أوكرانيا". فالأرض الممتدة من موسكو حتى جبال الكاربات هي أراض مفتوحة ولا تضم أي عوائق طبيعية تقف في وجه أي جيش معتد قادم من جهة الغرب. بينما سلسلة جبال الكاربات تشكل حاجزا طبيعيا على شكل قوس طوله ١٥٠٠ كلم يفصل شرق القارة الأوروبية عن غربها.

 ثم يأتي نهر الدانوب ليفصل سلسلة جبال الكاربات عن جبال الألب. مما دفع إيفان الرابع، المعروف بإيفان الرهيب الذي توج قيصرا لروسيا في عام ١٥٤٧، لمد حدود روسيا لتقف عند هذه الجبال. ففي ما يعرف اليوم بالتشيك، أقام إيفان الرهيب قواعد عسكرية متقدمة لصد أي هجوم من جهة الغرب وإيقاف أي جيش غربي قبل الوصول إلى موسكو. وكرر الفعل ذاته عند بحر قزوين لصد هجمات المغول من الشرق. فإنطلاقا من نفس المبدأ قام إيفان الرهيب بضم قازان المسلمة ووصلت حدود روسيا في عهده إلى نهر الأورال شرقا، وإلى بحر البلطيق وبحر القزوين مما خلق لروسيا حدودا طبيعية مع الدول المجاورة لها. منذ ذلك الحين أصبح هذا المبدأ هو البوصلة الرئيسية لقياصرة روسيا فيما يتعلق بحدود دولتهم. وكذلك فقد حرص قادة الاتحاد السوفيتي فيما مضى على خلق عدة أحزمة من الحدود الطبيعية التي تفصل موسكو عن أوروبا الغربية. عند تفكك الاتحاد السوفيتي ظهرت دولا جديدة على الخريطة بحدود متعرجة لإنها تعكس مسار الأنهار والجبال التي تشكل حدود تلك الدول. وكان قادة الكرملن قد حصلوا على وعود من الولايات المتحدة بإن لا تدخل الدول المجاورة لروسيا في حلف الناتو، من أجل خلق مساحات صديقة أو حيادية على أقل تقدير في محيط روسيا. إلا أن هذه التعهدات ذهبت أدراج الرياح بعد تغير الإدارة الامريكية التي وعدت بها. 

تحدي الجغرافيا ودروس التاريخ القريب

قد يتسائل القارئ، من يفكر اليوم بغزو روسيا؟ أليس هذا إفراطا في الخيال والافتراضات النظرية؟ قادة الكرملن لا يعتقدون أن هذه الافتراضات بعيدة عن الواقع. فخلال القرون الخمسة الاخيرة تعرضت روسيا للعديد من الحروب من جهة الغرب. ففي عام ١٦٠٥ قامت بولونيا بغزو روسيا وفي سنة ١٧٠٨ قامت السويد بغزوها. ثم نابليون سنة ١٨١٢ ثم الالمان خلال الحرب العالميتين في ١٩١٤ و١٩٤١. ربما هذا ما يفسر تصريح الرئيس بوتين بأن انهيار الاتحاد السوفيتي هو أكبر كارثة جيوسياسية في القرن الماضي. فالناتو قام بضم جمهورية التشيك، وهنغاريا, وبولندا سنة ١٩٩٩، ثم بلغاريا, استوانيا، لتوانيا، رومانيا, وسلوفاكيا سنة ٢٠٠٤, وكذلك ألبانيا سنة ٢٠٠٩.  أي أن الحدود الروسية اليوم تقع على بعد عدة مئات الكيلومترات من القواعد العسكرية الامريكية التي لا تفصلها عنها أي حدود طبيعية. 

مما يزيد في حدة التحدي الذي يتعرض لها اليوم الرئيس الروسي اليوم -كما تعرض له كل القياصرة الروس من قبل-, هو التفاوت الهائل بالكثافة السكانية. فروسيا هي أكبر دولة في العالم من حيث المساحة التي تزيد عن ١٧ مليون كلم مربع. أي مساحتها اكبر بخمس مرات من مساحة الهند ولكن عدد سكانها فقط ١٤٤ مليون إنسان. تمتد على مساحة تغطي ١١ منطقة زمنية مختلفة، إلا ان طبيعتها الباردة تجعل محاصيلها الزراعية شديدة الموسمية فتحول دون استيطان هذه الأراضي بكثافة عالية. أضف إلى ذلك أن الشعب الروسي يعد من الشعوب المتناقصة نتيجة لإنخفاض مستوى الولادات عن حد التعويض الطبيعي. من حيث النتيجة فإن قادة روسيا اليوم يشاهدون عاصمتهم تقع على أرض منبسطة وممتدة إلى حيث يربض خصومهم بدون حدود طبيعية وبدون كثافة سكانية ذات معنى على هذا الامتداد.

خيارات روسيا الجيوسياسية

تشكل صادرات النفط والغاز والفحم أكثر من نصف صادرات روسيا ودخلها الأول من الدولار. شاءت الأقدار أن يصل الرئيس ميخائيل غورباتشوف لسدة القيادة في الاتحاد السوفيتي ثم الرئيس بوريس يلتسن لحكم روسيا في فترة تهاوي أسعار النفط ووصولها إلى أدنى المستويات التاريخية. فكان هذا من جملة ما ساهم في وضع روسيا نفسها على حافة التفكك في فترة التسعينات. ولكن الأوضاع العالمية تغيرت في فترة وصول الرئيس فلاديمير بوتين للسلطة. الأمر الذي أتاح له إعادة بناء الاقتصاد الروسي المتهالك والشروع بتحديث الجيش الروسي. وكذلك الشروع بعدة مشاريع ضخمة تمد أوروبا والصين وتركيا بالغاز الروسي. الغاز الذي سيعود بمداخيل مجزية للخزينة الروسية ويسمح لروسيا بامتلاك أداة ضغط فعالة على الحكومات الأوروبية والمجاورة. فروسيا حتى قبيل شباط ٢٠٢٢ كانت تمد الاتحاد الأوروبي بحوالي ٣٥ بالمئة من احتياجاته من الغاز. مما قيد ردود الأفعال السياسية في أوروبا عموما وفي ألمانيا خصوصا في كل ما يتعلق بالشأن الروسي كما شاهدناها على سبيل المثال لدى ضم شبه جزيرة القرم للجمهورية الروسية. وكذلك، فإن بوتين استخدم دبلوماسية الغاز الرخيص من أجل الحيلولة دون انضمام أوكرانيا للاتحاد الاوروبي حين قدم لها الغاز الروسي بثلث الأسعار التي كانت تدفعها دول الاتحاد الاوروبي. ولكن خروج الرئيس الاوكراني آنذاك فيكنور يانيكوفيتش من الاتفاقية مع الاتحاد الاوروبي لصالح اتفاقية بديلة مع روسيا أشعل فتيل احتجاجات عنيفة في أوكرانيا أدت في النهاية لسقوط حكومته وهربه لروسيا في بدايات عام ٢٠١٤. 

ما الرد المتوقع من روسيا على ظهور حكومة غير صديقة في أوكرانيا؟ مرة أخرى فإن الجغرافيا ستفرض طبيعة الرد. فكما شاهدنا قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم التي تعادل بلجيكا من حيث المساحة. والسبب العملي لهذه الخطوة بسيط وواضح جدا بغض النظر عن المسوغات التاريخية او السياسية. فميناء القرم هو الميناء الوحيد الذي يتيح لروسيا إمكانية التبادل التجاري مع العالم على طوال العام. فكل موانئها الأخرى تتجمد في فصل الشتاء فتخرج عن الخدمة تماما. وبالتالي فقدان روسيا لميناء القرم يعني فقدانها نافذتها على الملاحة البحرية والتجارة العالمية عبر البحار. ومنذ ذلك التاريخ قامت روسيا ببناء حوالي مئة سفينة وبارجة عسكرية من أجل حماية نافذتها البحرية وصيانة قدرتها على المعارك البحرية.

ومن هنا لو سألنا الرئيس الاوكراني أو أي جنرال مطلع في حلف الناتو عن الرد الروسي المتوقع على رغبة أوكرانيا في الدخول في حلف الناتو أو الاتحاد الاوروبي. فإن الجواب لن يتطلب منهم الكثير من التفكير. قد يقوم التاريخ بتسويغ الجواب من وجهة النظر الروسية لإسباغ شرعية ما يحتاجها الروس في حربهم. إلا ان جوهر هذا الجواب تحدده الجغرافيا. فوصول القواعد الأمريكية إلى أوكرانيا يعني قدرة الناتو على تهديد موسكو على مدار الساعة وتحويل روسيا من دولة عظمى إلى دولة مهددة بل أقل من دولة عادية رغم امتلاكها لأسلحة نووية وموارد ضخمة. وبالتالي فمن وجهة نظر القادة الروس، إذا كانت العلاقات السياسية والاقتصادية مع أوروبا والغرب هي ثمن الحيلولة دون الوصول إلى هذا المصير المشؤوم, فلا مانع من التضحية بها لمنع خطر استراتيجي أشد إيلاما ووطأة على مستقبل روسيا ورؤيتها لنفسها. 

مستقبل علاقات روسيا بالغرب بعد غزو أوكرانيا

تقع ٤٠ بالمئة من مساحة روسيا في أوروبا، بينما ٧٥ بالمئة من سكانها يقطنون في أوروبا، مما يجعل تاريخها أوروبيا بامتياز. إن كان من جهة العلاقات التجارية أو علاقات المصاهرة أو تاريخ الحرب والسلم. إلا أن امتدادها في آسيا يوفر لها اليوم مرونة عالية في سياق خلق بدائل للجار الاوروبي. فبعد أن كانت المساحات الشاسعة الممتدة تحديا استراتيجيا في سياق الدفاع، أصبحت اليوم نعمة استراتيجية في سياق القدرة على التعامل مع العقوبات الغربية. ففي عام ٢٠١٤، بعد ضم القرم وما رافقها من عقوبات اقتصادية ومالية أدت لانهيار قيمة الروبل، وقعت روسيا مع الصين أول اتفاقية لمدها بالغاز المسال من سيبيريا، المشروع الذي تجاوزت كلفته النهائية ٣٠ مليار دولار وبدأ بالعمل في ٢٠١٧. ثم قامت روسيا في ٢٠١٩ بتوقيع اتفاقية لتوريد الغاز من سيبيريا إلى الصين عبرخط أنابيب بقيمة ٤٥ مليار دولار تساهم الصين في تمويله وتشتري من خلاله الغاز لمدة ثلاثين سنة بقيمة ٤٠٠ مليار دولار. تعد هذه الاتفاقية هي الأكبر في العالم حتى اليوم من حيث القيمة. فالرئيس بوتين بدأ مبكرا بالبحث عن زبائن جدد يعوضون نقص الإيرادات الواردة من بيع الغاز إلى اوروبا. فبعد ان كانت صادرات الطاقة الروسية إلى الصين تشكل ٥ بالمئة عام ٢٠٠٥ أصبحت تصل إلى أكثر من ٣٢ بالمئة عام ٢٠٢١.  

عند توقيع الاتفاقية أعلاه عام ٢٠١٩ سأل أحد الصحفيين الرئيس بوتين عما إذا كان يضع كل بيضه في سلة واحدة. فكان جواب الرئيس الروسي طريفا جدا ومعبرا في آن واحد: "لدينا الكثير من البيض ولكن لا يوجد الكثير من السلال لتوزيعه عليها." لم تكن المفاوضات مع الصينين سهلة. ولكنها وفرت مداخيل وسيولة وبديل استراتيجي للدول الغربية التي قررت حصار موسكو من خلال العقوبات الاقتصادية. 

وماذا بعد؟ كيف سيكون مستقبل روسيا والمنطقة بعد الحرب على أوكرانيا؟

 على المدى القصير، فإن روسيا تمتلك من الخيارات والمداخيل المالية ما يكفي للاستمرار بالحرب ومابعدها رغم استنزاف الحرب للموارد البشرية والمالية. ولكن على المدى البعيد فإن انقطاع روسيا عن أوروبا سيحرمها من الولوج لما تحتاجه من تكنولوجيا وتمويل لمراكمة أسباب استمرارها كقوة رئيسية في المنطقة. رغم ذلك، فمهما بلغت شدة العقوبات الغربية على روسيا واتسعت، فروسيا ستبقى الدولة الممتدة على قارتين مشكلة ثمن مساحة اليابسة على الكرة الارضية ولها حدود برية مع أربعة عشرة دولة وحدود بحرية مع عدة دول أخرى. ستبقى واردات روسيا من الغاز والنفط قادرة على رفد اقتصادها وجيشها بأسباب البقاء. ستبقى الجغرافيا ثابتة، بما تهبه لروسيا من نعم وفرص وبما تفرضه عليها من تحديات. ربما يراهن قادة الكرملن على الزمن فيما يتعلق بتماسك التحالفات التي خلقتها الدول الغربية. فكما كان يردد الكثيرون في أوروبا الشرقية خلال فترة الحرب الباردة: "أمريكا بعيدة جدا وموسكو قريبة جدا".


مقال تم نشره على موقع المدن في الخامس من تشرين الأول لعام ٢٠٢٢ تحت الرابط التالي:إضغط هنا