- التفاصيل
تأسيس ونشوء الأحزاب السياسية في الواقع السوري الراهن
وبالتالي هل هناك إمكانية لتأسيس أحزاب سياسية في الظروف الحالية التي تمر بها سوريا؟هل هناك حاجة لوجود الأحزاب السياسية في ظرف فراغ السلطة وغياب المؤسسات؟
وماذا يمكن أن يكون دور هذه الأحزاب في هذه الظروف؟
وماهي العوامل والظروف التي سيتوجب على الجماعات السياسية مراعاتها عند تأسيس الحزب السياسي في سوريا؟
الملخص التنفيذي
-
قامت هذه الدراسة بتقديم بعض الإجابات حول إمكانية إنشاء وتأسيس أحزاب سياسية في بيئة المعارضة والثورة السورية خلال الظروف الحالية. حيث تبدأ هذه الورقة بمقدمة تستعرض تاريخ نشوء الأحزاب السياسية وتطور الفلسفات التي إستندت إليها في الدول الأوروبية، وسعت لتتبع أثر هذه الفلسفات في الواقع السوري في فترة ماقبل عام ١٩٦٣.
-
ثم تعرضت الدراسة لضرورة وجود البيئة التشريعية الحاضنة للعمل السياسي، والتي تحدد المعايير والأطر القانونية الناظمة لعمل الأحزاب داخل الدولة. حيث تعرضت الدراسة لإشكالية الفراغ القانوني والتشريعي الحاصل في البيئة السورية، الأمر الذي يحتم ضرورة وجود بعض المعايير العملية التي تميز الأحزاب السياسية عن الجماعات الناشطة الأخرى.
-
ثم تعرضت الورقة لمهمة الأحزاب السياسية في البيئة السورية في ظل غياب آليات أدوات التنافس السياسي للوصول إلى السلطة في الظروف الحالية. حيث سيترتب على الأحزاب مسؤوليات ووظائف غير تقليدية تبعا للظروف الإستثنائية التي تمر فيها سوريا.
-
قدمت ورقة الدراسة أيضا بعض الإقتراحات للخطوات الواجب إتباعها لتأسيس الحزب، كما أضافت بعض الدروس المستفادة من التجارب الأوروبية والتي يمكن الإفادة منها لدى السعي لتأسيس عمل حزبي جديد في سوريا.
فهرس المحتويات
-مقدمة والملخص التنفيذي
- نشوء الأحزاب وتطورها خلال القرن الماضي
تطور المنظومة الحزبية خلال القرن الماضي في الدول الديمقراطية
- البيئة التشريعية التي تعمل في إطارها الأحزاب
كيف يمكن التمييز بين الأحزاب السياسية والتجمعات الشعبية الأخرى؟
- تأسيس الأحزاب في الواقع السوري
- ثقافة نقد الأحزاب و فقدان الثقة بها
دروس مستفادة للأحزاب الجديدة في سوريا
نشوء الأحزاب وتطورها خلال القرن الماضي
تلعب الأحزاب دورا مهما و مفصليا في الدول الديمقراطية و الديكتاتورية على السواء. حيث أنها أحد أهم أدوات تنفيذ الديمقراطية في النموذج الأول، كما أنها أحد أدوات تشريع و تجميل الدكتاتورية في النموذج الثاني كما شاهدناها في الإتحاد السوفيتي وفي سوريا قبل الثورة.
حيث يتم النظر عموما إلى الأحزاب السياسية كقنوات للتواصل والعبور بين عموم المجتمع والسلطة السياسية فيه. إلا أن هذه القنوات لها ألوان وعناوين تعكس الأفكار والعقائد والمصالح الموجودة في المجتمع، كما أنها دائمة التغير والتطور بما يواكب حركة التغير والتطور في أفكار ومصالح شرائح المجتمعات التي تمثلها هذه الأحزاب.
تحاول نظرية الشروخ التي وضعها العالمان: سايمون مارتين ليبست وشتاين روكان تفسير طريقة ظهور الأحزاب وطريقة تكون المنظومة الحزبية في المجتمع. حيث يفسر ظهور الأحزاب كنتيجة لإنعكاس الصراعات الفكرية الرئيسية في المجتمع على العملية الإنتخابية، وبالتالي ظهور حزب جديد يتطلب تغير في تموضع الصراع الفكري في المجتمع مما يسمح بنشوء توجهات جديدة تمثلها أحزاب جديدة.
ففي الخمسينيات وستينيات القرن الماضي كانت الأسئلة الجوهرية في المجتمع الأوروبي وكذلك أيضا في المجتمع العربي تتمحور حول علاقة الدين بالدولة والصراع بين أبناء المدينة وأبناء الريف وكان إنعكاس ذلك واضح في السلوك الإنتخابي للمواطنين وبالتالي كذلك في المنظومة الحزبية.
ويمكن ملاحظة وتتبع أشكال هذه الصراعات في الحالة السورية منذ الإستقلال وحتى إنتهاء الحياة الحزبية بشكل عملي في سوريا مع وصول حزب البعث للسلطة في عام ١٩٦٣. حيث كانت الدولة السورية المولودة حديثا وحتى نهاية عهد أديب الشيشكلي عام ١٩٥٤ محكومة من النخب المدينية التي تشكلت خلال الحقبة العثمانية في المدن الكبرى، والتي كانت في أغلبيتها من ملاكي الأراضي وموظفي الدولة العثمانية. وإن كان المكون العربي السني ذو الطابع الليبرالي في طليعة هذه النخبة، فإنه لم تغب عنها شخصيات متعددة من باقي المكونات ذات الانتماء الطبقي والتعليمي المتشابه.
ابتداء من عام ١٩٥٤ ظهر جيل جديد من السياسيين السوريين ينتمي إلى طبقات وسطى، تلقت تعليمها في المدارس العمومية التي أنشاها الانتداب الفرنسي، وبدأ الصراع على الحكم واضحا بين الجيلين القديم والجديد من خلال التنافس بين الأحزاب التي نشأت منذ أوائل الأربعينيات.
فمثل حزب الشعب والحزب الوطني الجيل القديم، ومثل حزب البعث والحزب القومي السوري والحزب الشيوعي وجماعة الإخوان المسلمين الجيل الجديد. هذا الجيل الجديد اشتمل على تمثيل أكبر للأقليات الدينية والطائفية والإثنية في سوريا، واشتمل أيضا على تمثيل أوضح للصراع القائم بين الريف والمدينة، والقائم بين المرجعية الدينية للدولة والمرجعية الإشتراكية أو الشيوعية.
لا زالت هذه المواضيع تشغل المجتمعات العربية اليوم، حيث لم تستطع السياسات العربية منذ ذلك الحين تقديم حلول وإستجابات مناسبة للمشاكل الإجتماعية التي أدت لظهور تلك التساؤلات في المجتمعات العربية. بينما ظهرت في المجتمعات الأوروبية منذ نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات أسئلة فكرية جديدة شغلت المجتمعات هناك وخلقت بعدا جديد في الصراع السياسي، حيث كانت النقاشات حول الفرق بين المادية وما بعد المادية هي المحرضات التي أدت لظهور تجمعات وأحزاب سياسية جديدة مثل أحزاب الخضر المنتشرة في أوروبا.
ما بعد المادية مصطلح من وضع العالم رولاند إنكل هارت حيث يصف به التيار الذي لا يركز به على الماديات والعالم المادي فقط وإنما يهتم بالقيم المجردة والتي لا يمكن قياسها ماديا مثل: الحرية و الصحة و حماية الطبيعة والسعادة. و هذا التحول في المجتمع الأوروبي هو ما يفسر ظهور حزب الخضر.
على العموم يتم تصنيف الأحزاب في أوروبا بشكل أولي من خلال معياريين:
الأول هو تموضع الحزب على المحور المتراوح ما بين الليبرالية المطلقة إلى سيادة الدولة المطلقة التي تتدخل في حرية الأفراد. المعيار الثاني: هو تموضع الحزب على المحور المتراوح ما بين إقتصاد السوق المفتوح بالمطلق والإقتصاد الإشتراكي.
في الدول العربية يمكن إضافة معيار ثالث يتعلق بعلاقة الدين بالدولة والمجتمع، حيث تترواح الفلسفات التي تحدد هذه العلاقة مابين فلسفات تقوم على قاعدة ولاية الفقيه بأشكالها المختلفة (شيعية وسنية) القائمة على الدولة الدينية إلى الفلسفات التي تفصل بين الدين والدولة بشكل مطلق.
تطور المنظومة الحزبية خلال القرن الماضي في الدول الديمقراطية
تغيرت وتطورت بنى الأحزاب وآليات عملها وطرق تأسيسها خلال القرن الماضي بشكل كبير. يقوم العالم كلاوس فون بييمه بتوصيف هذا التطور في الدول الأوروبية الغربية بشكل عام كما يلي: الأحزاب الكمية، الأحزاب الشعبية، أحزاب الناخبين الحرفيين أو المختصين.
-
الأحزاب الكمية بدأت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى منتصف الخمسينات حيث أن الأحزاب الأوروبية كلها كانت تضم طبقات مختلفة و إيديولوجيات متناقضة بين صفوفها و تستمد قوتها و تمويلها من تماسك الكتلة البشرية الهائلة التي تضمها و ظروف الحرب والإقتصاد في ذاك الوقت ساهم في تماسكها.
-
الأحزاب الشعبية: بدأت منذ أوائل الخمسينات وحتى أواخر السبعينات حيث كانت الأحزاب الشعبية تسعى لإستقطاب كافة أفراد الشعب و تميزت عن سابقتها بتميزها بإيديولوجيا معينة في الخلفية مثل: الإشتراكية، الليبرالية، المسيحية المحافظة. و اعتمدت الأحزاب خلال هذه الفترة على دعم مالي حكومي سخي.
-
أحزاب الناخبين الحرفيين أو المختصين: حيث ساعدت وسائل الإتصال و التقدم العلمي إبتداء من أواخر السبعينيات على رفع الكفاءات و طرق التواصل في الأحزاب مما أنعكس على تحولها لتجمع من المدراء المختصين و الكفاءات المتعلمة المختصة التي تدير الحزب بطرق علمية و إحترافية بعيدا عن الصراعات الطبقية و الخلافات الإيديولوجية التي باتت تقريبا من الماضي. و بالتالي أصبح التفرغ للعمل الحزبي أمر لا مفر منه مما همش عمل المتطوعين و أضعف أهمية امتلاك الحزب لعدد أعضاء ضخم.
لا يزال النقاش دائرا فيما إذا إنتقلت فعلا أغلب الدول الأوروبية من مرحلة الأحزاب الشعبية إلى مرحلة الأحزاب ذات الكفاءات المختصة. ففي الأحزاب الألمانية والفرنسية والبريطانية اليوم لا يوجد توظيف لغالبية أعضاء الأحزاب لأنها تعتمد على العمل المختص و على التفرغ و لكن في نفس الوقت لا يزال يتمتع كل حزب بعدة مئات آلاف من الأعضاء. كما أن الأحزاب الألمانية والبريطانية اليوم لا يمكن قيادتها من الأعلى إلى الأسفل مثل الشركات رغم أنها تمتلك مدراء بمهارات نظرائهم في الشركات وذلك يعود لكون الحزب الألماني هو مجموعة من المؤسسات والأجزاء والمجموعات الكثيرة التي تحتاج للتنسيق و التوفيق فيما بينها.
كما أن قوانين الأحزاب تضمن حرية التعبير عن الرأي للأعضاء والمساواة بين الأعضاء ولا يحق للحزب إخراج أو طرد أي من أعضاءه بدون إجراءات معقدة ولهذا يوجد محاكم حل نزاع داخل كل حزب و في كل المستويات المذكورة.
البيئة التشريعية التي تعمل في إطارها الأحزاب
تعمل الأحزاب على قاعدة التنافس، وتسعى للوصول إلى الحكم. لذلك إستدعى وجودها قاعدة تشريعية لتنظيم عملها. وبالتالي تسعى التشريعات القانونية في الدول الديمقراطية لخلق البيئة المناسبة التي تسمح للجماعات البشرية المهتمة بممارسة العمل السياسي بتأسيس أحزاب تساهم في تشكيل (تمثيل) الإرادة السياسية للشعب. حيث تتيح هذه الدول تأسيس الأحزاب بحرية ويكون نظامها الداخلي متفق مع الأسس التي قامت عليها الدولة (جمهورية، ملكية، ديمقراطية،..إلخ). كما تتحمل الأحزاب مسؤولية التصريح العام عن مصدر وطرق إنفاق مواردها وأملاكها.
أما في الدول الدكتاتورية فإن القوانين والبيئة التشريعية تسعى إلى تشريع إستمرار سلطة الحاكم من خلال الترخيص لأحزاب صورية، كما تسعى لخنق أية محاولة لتأسيس أحزاب جادة ممكن أن تهدد السيطرة المطلقة للحاكم الفرد.
كما تضم البنية التشريعية في جميع الدول قوانين تخص حظر الأحزاب التي قد تهدد النظام السياسي في الدولة، والذي على الأحزاب أن تمارس العمل السياسي في إطاره. في أغلب الدول الديمقراطية يكون هذا القرار حكرا على المحكمة الدستورية العليا، حيث لا يحق للرئيس أو البرلمان أو الحكومة حظر أو حل أي حزب. كما أن الأنظمة الديمقراطية تسعى لعدم منع أي جهة من الممارسة السياسية عن طريق الحظر وقوة القانون، بل تشجع على مناكفتها في المجال السياسي ومحاججتها، وكذلك من خلال مكافحة أسباب ظهورها من خلال العمل الإجتماعي المنظم. والسبب في ذلك يكمن في عدم الرغبة في تدخل الدولة في ديناميكية التنافس السياسي. فحتى لو خالف أحد الأحزاب الدستور بشكل واضح، وتم حله نتيجة ذلك، فإن أي قرار من هذا النوع يعد تدخل مخل في منظومة العمل الديمقراطي و سيترتب عليه ردات فعل و آثار إجتماعية خطيرة، حيث سينجم عنه إخراج نواب منتخبين من قاعدة شعبية من البرلمان، ومصادرة أملاك الحزب التي عمل على بنائها جزء من الشعب ومحاربة أفكار وتوجهات وتطلعات جزء من الشعب. وقد لا يحقق قرار المنع والحل في النهاية الغاية منه حيث قد يتحول الحزب إلى جماعة باطنية أو حزب سري يعمل في الخفاء و يؤذي الدولة والمجتمع دون أن يكون هناك أي مراقبة أو سلطة على أعماله. كما أن إخفاق المحكمة في منع أي حزب لعدم كفاية الأدلة، ستكسب أعماله وتطرفه المشروعية و تزيد من قاعدته الشعبية ومن تطرفه لأن الإخفاق في منع الحزب بعد محاكمته هو شهادة حسن سلوك له. لذلك لا يصح اللجوء إلى هذه الأداة إلا في الحالات الإستثنائية الملحة.
إن مجموعات العمل السياسي التي تود تشكيل أحزاب في بيئة الثورة السورية بعيدا عن التعامل مع النظام في دمشق، تعاني من مشكلة الفراغ التشريعي نتيجة غياب السلطة المركزية القادرة على تسجيل الأحزاب لديها بعد أن تقوم بوضع معايير وشروط وطنية مناسبة لتشكيل الأحزاب. فجميع الأحزاب التي تم الإعلان عنها في البيئة السورية في المناطق الخارجة عن سلطة النظام هي عبارة عن مجموعات عمل تسعى لخوض التجربة التنظيمية للعمل الحزبي، إلا أنها تفتقر للقاسم المشترك من المعايير والبنى ،وذلك نتيجة لغياب الدولة وفقدان الحاضنة التشريعية التي تأطر لنظام سياسي، يجب على الأحزاب أن تتنافس في إطاره. بل يمكن القول أن طبيعة النظام السياسي القادم في سوريا لا تزال مجهولة ومن الصعب التكهن بها، وبالتالي فإن قواعد التنافس السياسي وأدوات الممارسة الحزبية ستبقى في الفترة الحالية غير معرفة، مما يعني بالضرورة عدم إمكانية قيام أحزاب سياسية بالمعنى التقليدي للحزب.
ولكن يمكن القول بإن واقع الفوضى نتيجة غياب السلطة المركزية يحتم على المجموعات الراغبة بممارسة العمل السياسي أن تأطر أعمالها تحت مظلات سياسية ذات هيكليات وأطر واضحة. وبالتالي فإن سعي هذه المجموعات للتحول بمنهجية ممارساتها إلى نمط العمل الحزبي هو خطوة إيجابية في إتجاه ضبط بيئة العمل السياسي المعارض وتصحيح مسارها. كما أن تجربة تأسيس العمل السياسي ستغني قدرة هذه المجموعات في مرحلة لاحقة على تأسيس أحزاب سياسية منظمة تتنافس للوصول إلى الحكم في إطار نظام سياسي يضع قواعد اللعبة السياسية التي على الأحزاب أن تتقيد بها. وذلك بعد أن تدخل سوريا مرحلة جديدة تنتقل فيها الأزمة الحالية من مرحلة الصراع العسكري إلى مرحلة النزاع السياسي حيث تجد الأحزاب السياسية دورها التقليدي المتعارف عليه.
كيف يمكن التمييز بين الأحزاب السياسية والتجمعات الشعبية الأخرى؟
هناك ضرورة للتمييز بين الحزب السياسي وغيره من أشكال المنظمات الأخرى، فالحزب السياسي يحصل على ميزات لا تملكها أي منظمة أو مؤسسة أخرى في النظم السياسية الحديثة. حيث تحصل الأحزاب على دعم مالي حكومي وحماية قانونية دستورية ولا يمكن حلها أو إيقافها عن العمل إلا من خلال المحكمة الدستورية العليا. يكون هناك عادة في كل دولة قانون للأحزاب يحدد الفرق بين الحزب و غيره بالمشاركة في الإنتخابات البرلمانية على مستوى الدولة أو الأقليم. كما يحدد القانون كيف يمكن للمؤسسة أو التجمع من خسارة صفة الحزب. حيث يشترط عادة الجدية في التجمع مثل عدد الأفراد و إستقرار المؤسسة وجدية الأهداف، حيث يتم تحديد معايير واضحة لكل من هذه الشروط.
في الحالة السورية يمكن رصد العديد من مجموعات العمل في داخل سوريا وخارجها تعمل على ممارسة أعمال عديدة في مجالات مختلفة: إعلامية، إغاثية، طبية ، عسكرية وغيرها.
كل هذه المجالات لا تتطلب التسجيل المسبق لدى أي سلطة مركزية للدولة للحصول على صفة العمل، بخلاف الأحزاب السياسية. ولكن بغض النظر عن الناحية القانونية التي هي الفيصل الرئيسي في تمييز الحزب السياسي عن غيره من التجمعات، فإن الحالة السورية تعاني من تعقيدات إضافية ناتج عن ثقافة الخوف التي زرعها النظام في قلوب السوريين من العمل السياسي بشكل عام والعمل الحزبي بشكل خاص. كما أن التركة الثقيلة لحزب البعث وممارساته الإقصائية والديكتاتورية تلقي بظلالها على الوعي العام السوري للعمل الحزبي ومستوى تقبله للعمل السياسي في إطار الأحزاب السياسية.
يتميز الحزب عن أية مجموعة عمل بالمزايا التالية:
-
يُفترض في الحزب الدوام بينما يُفترض في مجموعة العمل الزوال حال تحقيق الهدف التي أنشئت من أجله.
-
يسعى الحزب دائماً لأن يكون مؤسسة على مستوى الدولة أو الولاية أو الأقليم على الأقل، بينما تكون مجموعات العمل ذات طابع مناطقي في الغالب.
-
الحزب مجموعة كبيرة من الأفراد المؤمنين ببرنامج سياسي معين يستند في الغالب لقييم ومفاهيم مشتركة، ولذلك فهم ملتزمون بهذا البرنامج مما يزيد الثقة المتبادلة بين الأعضاء ويزيد وحدتهم بسبب وحدة الهدف والفكر، وهذا بالطبع يجعل العمل الجمعي المشترك أسهل.
-
الحزب هو مثال المؤسسة وذلك في هيكليته وأهدافه ونظامه الداخلي وثقافة الإنضباط التي يزرعها في أعضائه.
-
الحزب ضمانة المحافظة على الخبرات التي تراكمت أثناء الثورة والإستفادة منها في مراحل ما بعد الثورة.
-
الحزب يجمع ويصنع ويستقطب الكفاءات الفكرية والتكنوقراطية والسياسية (التفاوض وصنع الإجماع) مما يمكنه من إدارة أجهزة الدولة في حال نجاحه في الإنتخابات. هذه الكفاءات تبقى ضمن الحزب عندما يخسر الحزب الإنتخابات ليعود فيوظفها حين ينجح في الإنتخابات من جديد.
-
إن ثقافة الديمقراطية (وحتى الديكتاتورية كما في حالة حزب البعث) تبدا في الحزب. ولذلك فإن ضمانة الديمقراطية هي الثقافة الحزبية الديمقراطية.
تأسيس الأحزاب في الواقع السوري:
يجب أن تتجنب الأحزاب في بيئة الثورة إنشاء جيوب الإقصاء على أساس إيديلوجي، وذلك من خلال تبني برامج عمل غير مؤدلجة: أي أنها تتيح الفرصة للمشاركة لكل من يرغب في العمل.
تكون المشاركة في الحزب وفي برامج العمل مفتوحة وممكنة لكافة السوريين، حيث تكون معايير الإستمرار في المشاركة هي القدرة على العطاء، بدل من إعتماد معايير ترشيحية للمشاركة في العمل. هذا يضمن تجدد الدماء بشكل دائم ويشكل ضمان نسبي لعدم إستيلاء مجموعة معينة على مقاليد الحزب بشكل مطلق أو بطريقة باطنية.
عند السعي لتأسيس أي حزب في البيئة السورية الحالية يجب مراعاة الجوانب التالية:
-
تحديد فلسفة الحزب هويته ورؤيته للطريق الأمثل لمستقبل الأمة. عادة ما تكون صياغة الغايات والفلسفة للحزب عمومية وتتصف بالمثالية كي تبقى صالحة لأطول مدة ممكنة. ويتم العودة لها والتعامل معها على أنها البوصلة التي توجه القرارات العامة للحزب.
-
إختيار الإسم المناسب: يجب أن يكون سهلاً، واضحاً، ويعبر عن أهداف الحزب.
-
إختيار الشعار: لا بد للحزب من شعار يعبر عن رسالته (صورة أو كلمات تعبر عن أهدافه وأفكاره)
-
النواة المؤسسة: وهذه النواة تتألف من عدد من الأشخاص المؤمنين بأفكار سياسية متقاربة والملتزمين بالعمل الطويل الأمد.
-
الشرعية والعلنية: لا بد من إعلان تاسيس الحزب على الملأ فالحزب السري يثير الشكوك ولا يحظى بالإعتراف من الراي العام وبالتالي لا يحضى بالشرعية القانونية. طبعا لا بد من تسجيل الحزب عند الجهات المختصة ووفقاً للقوانين الناضمة لتاسيس الجمعيات والأحزاب. لكن وفي ظل غياب هذه الدولة والقوانين العادلة الناظمة لتأسيس الأحزاب لا بد من الإشهار، ووضع أدبيات الحزب وهيكليته في متناول المتابعين والمهتمين (صفحة نت أو بروشورات) كي يطلع عليها الجميع، وكذلك محاولة تسجيل الحزب في دولة مجاورة كجمعية سياسية أو مجموعة ثقافية والحصول على اعتراف عدد من الدول به كحزب شرعي يمثل شريحة من المجتمع السوري ويسعى لترخيص وجوده حالما تسمح الظروف القانونية بعد انتهاء الثورة.
-
البرنامج السياسي: إن البرنامج السياسي يمثل الأفكار أو المسار الفكري الذي يؤمن العمل والدعم الضرورريين لنظرة الحزب إلى تطور البلاد المستقبلي في محاور الحياة كلها ويوفر الأعمال اللازمة لتغذية ما يراه الحزب ضروريا من أجل إزدهار البلاد. أي أن البرنامج السياسي هو عبارة عن مجموعة المسارات التي يتم إختيارها من بين مجموعة بدائل أخرى من أجل تحقيق رؤيا الحزب في معالجته للتحديات التي تواجه البلاد في كل المراحل. إن هدف أي حزب سياسي في العالم هو الوصول إلى الحكم (الجهاز التشريعي، الجهاز التنفيذي، المجالس المحلية). وعندما يحكم الحزب في أي من الأجهزة السابقة الذكر فإنه يسعى من خلال مرشحيه للتطبيق برنامجه. ويشمل البرنامج رؤى لكيفية إدارة الدولة والإقتصاد وتحقيق المساواة والعدالة وإعلاء سلطة القانون. وقد يقوم هذا البرنامج على رؤيا مفصلة ومعلنة أو على مجموعة من الرؤى والأفكار سياسية. ليست كل الأحزاب أيديولوجية فبعضها مجرد تحالف بين أعضاء ومناصرين لخدمة مصالح معينة (إقتصادية، إجتماعية أو ثقافية..) أو لدفع تطور الدولة في اتجاه معين. يمكن القول أن السياسات هي ردود فعل النخبة الحزبية على الحاجات والمشاكل التي يعاني منها المجتمع.
-
الإستراتيجيات والأهداف: البرنامج السياسي يتضمن الأهداف الدائمة التي يسعى الحزب لتحقيقها كلما وصل أحد مرشحيه إلى موقع مؤثر في السلطة في الدولة (على أي مستوى). لكن لابد في كل مرحلة من مراحل العمل الحزبي وفي المراحل التي تمر بها الدولة والوطن من تحديد أهداف يسعى الحزب إلى تحقيقها بما يدفعه خطوة أخرى إلى الأمام على طريق تحقيق البرنامج.
-
الهيكلية: الحزب مؤسسة ولذلك فلا بد له من هيئات متخصصة يضطلع بالقيادة ووضع السياسات العامة وتطوير البرنامج وإدارة الحزب وزيادة الأعضاء وتدريبهم ودعم المرشحين وإنشاء الفروع واحترام النظام الداخلي. العديد من الأحزاب الأوروبية تعمل على تقسيم الولايات إلى مناطق، حيث تنطلق من مفهوم العمل المناطقي للتمثيل الشعبي. في كل منطقة يجب أن يكون هناك خلية أو وحدة للحزب التي قد تكون جمعية أو مجموعة من الناس تتمتع بصلاحيات معينة و لها إدارة و ترسل مفوضين عنها إلى مستوى أعلى و هو الدائرة الإنتخابية. حيث يجتمع مفوضوا المناطق و ينتخبون إدارة و يرسلون مفوضين إلى المستوى الأعلى و هو الولاية في الدول الإتحادية (ألمانيا أو سويسرا) أو المحافظة في الدول المركزية (فرنسا) وهناك يجتمع مفوضون الدوائر الإنتخابية و ينتخبون فيما بينهم مجلس إدارة أيضا و ينتخبون ممثلوهم على مستوى الإتحاد الألماني. و من خلال هذه الهيكلية يكون الأعضاء في رأس الهرم يمثلون الأعضاء في قاعدة الهرم و يتحقق البناء الديمقراطي للحزب بما يحقق مفهوم تمثيل الإرادة العامة للجمهور كما تقدم في الفصل الأول.
-
النظام الداخلي: كأية مؤسسة لابد للحزب من نظام داخلي يضبط العلاقات بين الهيئات المؤلفة لهيكليته، ويحدد المسؤوليات ويوزع السلطات بما يمنع سيطرة أفراد قليلة على قرار الحزب. فيما يلي بعض اهم المواضيع التي يتوجب على النظام الداخلي ضبطها:
-
تحديد فلسفة الحزب وغاياته
-
شروط الأهلية والإنتساب إلى الحزب، بما في ذلك تحديد الحقوق والمهام والمسؤوليات
-
تحديد أجهزة الإدارة والهيكليات التنظيمية وتحديد وضبط صلاحياتها ومسؤلياتها وآليات تواصلها مع بعضها
-
الإجراءات المتعلقة بوضع السياسات
-
إجراءات وطرق إختيار قادة الحزب ومرشحيه للمناصب الهامة
-
الآليات المتعلقة بحسن الإدارة المالية وضبط الشفافية
-
الآليات المتعلقة بحل النزاعات الداخلية
-
سبل تفسير نظام الحزب وتعديله
-
التدابير المتعلقة بالعقوبات والترفيعات
-
-
التمويل: تحصل الأحزاب عادة على تمويل من خلال طريقين أساسيين: التبرعات والتمويل الخاص وكذلك الدعم الحكومي في العديد من الدول. فغالباً ما تعتمد الأحزاب على اشتراكات سنوية يتم جمعها من الأعضاء، كما أنه هناك مصادر أخرى للتمويل مثل التبرعات المعلنة من مناصرين للحزب وبرنامجه أو عوائد أملاك وأوقاف الحزب في حال وجودها.
-
الأعضاء وسياسة العضوية: في الستينات من القرن الماضي كانت الأحزاب الطليعية هي السائدة على الساحة السياسية. وهي أحزاب لا تسعى إلى توسيع عضويتها وإدخال العدد الأكبر من المواطنين في صفوفها وإنما تسعى إلى إجتذاب أعضاء متميزين وتعتبر نفسها نخبة المجتمع القادرة على قيادته. إلا أن هذا النموذج إنتهى إلى ديكتاتورية الحزب الواحد الذي يتعالى على الجميع ويعتبر نفسه "قائد الدولة والمجتمع" ويفرض برنامجه فرضاً بقوة الدولة بعد ان يستولي عليها. هناك أيضاً نموذج الأحزاب الشعبية التي تحاول جمع العدد الأكبر من الأعضاء من أجل ادعاء تمثيل المجتمع بأسره (مثل حزب البعث بعد حكم الأسد). وهذا يقودنا أيضاً إلى حزب يدعي التفويض الشعبي الكامل فيعمل على إقصاء بقية الأحزاب عن السلطة ويستأثر بها وحده بدعوى أنه يمثل كل شرائح المجتمع. يجب أن يختار الحزب سياسية للعضوية تجعله أولاُ لاعباً جدياً على الساحة السياسية، وتجعله ثانياً قادراً على ترشيح مرشحين لأي منصب وفي أية منطقة في القطر، وتجعله ثالثاً ممثلاً لمصالح شريحة حقيقية في المجتمع تؤمن بمبادئه وأهدافه وبرنامجه، وتجعله أخيراً يحقق توازن يضعه في وسط الطيف بين النموذج الطليعي والنموذج الشعبي.
قد نجد في التوصيف أعلاه تشابه من حيث الشكل البيروقراطي مع العمل داخل حزب البعث، وذلك لإن البناء البيروقراطي للأحزاب حول العالم متشابه إلى حد كبير. كما أن إعتماد آليات عمل بيروقراطية منظمة يعد أمر ضروري وأساسي لبناء حياة سياسية صحية في سوريا المستقبل. وقد رأينا أن مجموعات العمل داخل وخارج سوريا لا تستطيع أن تنمو وتتوسع لتشمل آلاف الأفراد وذلك لاسباب عديدة منها صعوبة التواصل ومنها عدم معرفة كيفية بناء المؤسسات وكذلك غياب الثقافة المؤسساتية (كتابة النظام الداخلي، وضع الأهداف والمبادئ، احترام القواعد والأنظمة، آليات العمل الجمعي المشترك، إدارة بيروقراطية كبيرة، الخلط بين القيادة الهرمية والديكتاتورية).
ماهي وظيفة الأحزاب؟
في الدول المستقرة تكون مهمة الأحزاب الرئيسية في المساهمة في بناء و تمثيل الإرادة السياسية الشعبية في كل مجالات الحياة العامة. يمكن تفصيل ذلك من خلال مايلي:
-
المساهمة في تشكيل الرأي العام
-
المساهمة في عملية التثقيف السياسي
-
دعم مساهمة المواطنين في الحياة العامة
-
بناء المواطنين المؤهلين لملأ المناصب الحكومية
-
المشاركة في الإنتخابات من أجل الوصول إلى السلطة
-
المشاركة و التأثير في تطوير العمل السياسي في البرلمان والحكومة
-
السعي لتحقيق و نشر الوعي الشعبي بأهدافهم السياسية
-
السعي لتشكيل جسر تواصل بين الشعب و مؤسسات الدولة
تنطلق قوانين الأحزاب بشكل رئيسي من نظرية غيرهارد لايب هولز التي ترى في الأحزاب السياسية قنوات تواصل بين الشعب والمجتمع من جهة و مؤسسات الدولة من جهة أخرى و لذلك هي أحد المكونات الرئيسية للدولة الديمقراطية.
ولكن ماذا يمكن أن تكون مهمة الأحزاب في الدول الغير مستقرة والتي تعاني من ظروف حرب كما هو حالها في سوريا؟
وظيفة الحزب التقليدية هي تنظيم التنافس والتدافع السياسي بين الجماعات الطامحة للوصول إلى السلطة، مما يدفع الكثيرين للتساؤل فيما إذا كان الوقت الآن مناسب لإنشاء الأحزاب. إلا أن إنتظام المجموعات المعارضة السورية في أحزاب سياسية بات اليوم ضرورة ملحة من أجل العمل المنهجي على وضع السياسيات التي تستجيب للحاجات الملحة للسوريين على المدى المتوسط والبعيد والمشاكل. يمكن تعداد بعض هذه الضرورات كما يلي:
-
ستكون المهمة الرئيسية للأحزاب هي المشاركة في مسار التغيير في سوريا عبر برامج عمل منظمة ومبنية على أساس إحتياجات المجتمع السوري تسعى في مجملها إلى دعم الجهود الرامية إلى إقامة دولة المواطنة والقانون والحرية والمساواة. يمكن أن تتبنى البرامج الحزبية في الوقت الحالي مشاريع وبرامج عمل تدعم بناء القدرات وتدعم المؤسسات الأهلية والمحلية الناشئة في البيئة السورية.
-
تنظيم عملية التنافس السياسي بين المجموعات العاملة في إطار المعارضة من خلال إيجاد مكونات سياسية تستند في تأسيسها لمعايير وبرامج عمل واضحة، مما سيساهم تدريجيا في تخفيف الأضرار والعطالة الناجمة في جزء منها عن الفوضى وفقدان المعايير.
ولكن قدرة هذه الأحزاب على المشاركة في عملية التغيير ستطلب تحقيق شرطين:
-
يجب أن تتجنب الأحزاب في بيئة الثورة إنشاء جيوب الإقصاء على أساس إيديلوجي، وذلك من خلال تبني برامج عمل غير مؤدلجة تتيح الفرصة للمشاركة لكل من يرغب في العمل.
-
تكون المشاركة في الحزب وفي برامج العمل مفتوحة وممكنة لكافة السوريين، حيث تكون معايير الإستمرار في المشاركة هي القدرة على العطاء، بدل من إعتماد معايير ترشيحية للمشاركة في العمل. هذا يضمن تجدد الدماء بشكل دائم ويشكل ضمان نسبي لعدم إستيلاء مجموعة معينة على مقاليد الحزب بشكل مطلق أو بطريقة باطنية.
-
تعمل الأحزاب في كافة الدول على إصطفاء النخب المتفوقة وتدريبها وتأهيليها للمشاركة في العمل السياسي. وبالتالي سيكون من مهمة هذه الأحزاب نشر الوعي والمعرفة الضرورية الممارسة السياسية. وتأهيل الشباب الثوري الطامح لدخول معتركات السياسة بالأدوات الضرورية التي سيحتاجها في الواقع السوري. وبالتالي ستكون أحد مهام الأحزاب في بيئة الثورة الحالية هي عملية التكوين والتثقيف السياسي السليم لجيل الشباب والناشطين العاملين الذين أفرزتهم الثورة.
-
السعي إلى تعزيز العمل المؤسساتي في البيئة السورية وذلك من خلال المساهمة في دعم نجاح الهياكل الناشئة في الواقع السوري الجديد في كل أنحاء القطر وخارجه (تنسيقيات محلية وتجمعات مناطق ومجالس محافظات). حيث يجب أن يكون الحزب مثالاً للعمل المنظم والمؤسساتي.
-
وضع رؤيا لسوريا المستقبل: تشارك الأحزاب مع الجماعات والأفراد السوريين العاملين في الثورة من أجل وضع مبادئ عامة وخطوط عريضة تقوم عليها سوريا المستقبل يرضاها الجميع وتكون الحد الأدني المشترك للعمل السياسي في المستقبل. قد يكون هذا عبر نشر الدراسات او عبر المشاركة في وضع مقترحات للدستور الجديد أو عبر المشاركة في حكومة المرحلة الإنتقالية.
بعد سقوط النظام وقبل الوصول إلى مرحلة الإستقرار سيترتب على الأحزاب السياسية مسؤوليات هامة تقتضي العمل على الإنتقال بالدولة من مرحلة الفوضى عبر المشاركة في تشكيل المرحلة الإنتقالي إلى مرحلة الإستقرار. حيث سيتوجب على الجماعات السياسية العمل على تكوين مرحلة إنتقالية قائمة على أسس التعاون والمشاركة السياسية الفعالة للجميع وإلغاء الإقصاء بكل أشكاله وتمكين سلطة القانون وتحقيق المصالحة الوطنية. وذلك يمكن أن يكون من خلال مشاركة الأحزاب السياسية بما يلي:
1. المساهمة في وضع دستور إنتقالي ينظم عمل الدولة خلال المرحلة الإنتقالية،
2. العمل على إدخال التعديلات المناسبة على القانون بحيث تُلغى كل القوانين المشرعة للعنف والحامية لمرتكبيه والمشرعة لاحتكار السلطة واحتكار الإقتصاد،
3. المساهمة في تشكيل حكومة إنتقالية من الخبراء القادرين على نقل البلد من حالة الفوضى إلى حالة النظام وتأجيل الصراعات السياسية مع ضمان محدودية سلطة الحكومة بحيث لا يخترقها حزب أو مجموعة أو دعاة أفكار معينة لا يكون حولها إجماع وطني كامل،
4. العمل على تشكيل جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد يشارك فيها أخصائيون قانونيون وممثلون عن كل الأحزاب والفئات العمرية والجنسين والقوميات والطوائف الدينية والطبقات الإقتصادية-الإجتماعية والمهن والتوجهات الفكرية،
5. المساهمة في تنظيم إستفتاء جماهيري لإقرار الدستور الجديد، مع تأجيل البت في بعض القضايا المصيرية مثل علاقة الدين بالدولة إلى أجل مسمى (ثلاث سنوات مثلاً) حتى تستعيد البلد صحتها الإقتصادية والسياسية ويُتاح لكل فئات الشعب التعبير عن آرائها والتعريف بها، وحتى يكون هناك حوار وطني بناء يؤدي غلى إجماع وطني بدل فرض ايديولوجية معينة بدعوى الاغلبية (الاغلبية مفهوم متغير حسب السياق التاريخي وتركيبة المجتمع)،
6. السعي لتشكيل مفوضية للمصالحة الوطنية وتقصي الحقائق (الإستهداء بنموذج جنوب إفريقيا وشرق تيمور ودراسات المراحل الإنتقالية) تتضمن الهيئات القانونية والقضائية المناسبة لمحاسبة المتورطين في القتل والتدمير والتعذيب والفساد من النظام القمعي محاسبة عادلة تحقق مبادئ الردع والنكال والقصاص وتقر بها أعين المتضررين وذويهم.
المساهمة في وضع رؤيا وآليات لحل الأجهزة الأمنية والفرق العسكرية الخاصة (التابعة لشخص واحد في الدولة) التي أذاقت الشعب أصناف العذاب والذل على مدى عقود. وتأخذ هذه الرؤيا والآليات بعين الإعتبار الأعداد الهائلة لمستخدَمي هذه الأجهزة وتغلغلها في كافة أجهزة الدولة ونواحي الحياة بما يضمن السلم الأهلي وعدم إنتشار الفوضى مع التاكيد على المحاسبة والقصاص.
ثقافة نقد الأحزاب و فقدان الثقة بها:
إنتقاد الأحزاب السياسية و فقدان الثقة بها له جذور عميقة في التاريخ وفي الثقافات المختلفة .ففي الثقافة التركية يقول الشيخ بديع الزمان النورسي: "أعوذ بالله من الشيطان ومن السياسة" أما في المراجع الألمانية القديمة نجد تعابير مثل: " السياسة تجارة قذرة" أو "موسيقا خشنة" وفي التراث البريطاني يتم تعريف السياسي على أنه "محتال يحميه القانون". فكثيرا ما يتم وصف الأحزاب في الأدبيات والثقافة العربية على أنها وكالات لأشخاص قلائل يلهثون وراء مصالح ضيقة تضر الصالح العام.
التجارب العربية مع حزب البعث في سوريا والعراق زادت من سلبية وقتامة الإنطباع السلبي عن الأحزاب. أما في أوروبا فإن الصورة السلبية عن الأحزاب مردها بشكل أساسي للتطور المعرفي، الذي عمل على تحويل العمل الحزبي إلى عمل إختصاصي منفصل على الجمهور ويعمل على حماية مصالح النخبة بالدرجة الأولى.
من الجدير بالذكر هنا الإشارة لنظرية روبريت ميشائيل حول النخب، حيث تنص أنه في المؤسسات الضخمة التي تضم أعداد كبيرة من الأعضاء لا بد من وجود نخبة تقود هذه المؤسسة بغض النظر عن طريقة الإدارة و النظام المعمول به في المؤسسة. هذه النخبة سرعان ما تنفصل عن القاعدة و تنفصل مصالحها عن مصالح المجموعة التي تمثلها. و الحقائق التجريبية تؤكد هذه النظرية و منها ما يلي:
-
التراجع المستمر لأعداد المنتسبين للأحزاب في أوروبا و خاصة الشباب
-
الإنخفاض المستمر للناخبين أصحاب الولاء الثابت حيث أن نسبة الناخبين الذين يقررون في اللحظة الأخيرة لمن يودون إعطاء صوتهم تزداد باستمرار مما يعني أنهم لا يملكون قناعة قوية بأي حزب من الأحزاب.
-
ضعف التركيز في الإنتخابات المحلية و الإتحادية مما سمح بالسنوات الأخيرة بوصول بعض الأحزاب و الجماعات الصغيرة للبرلمانات.
تشير إستطلاعات الرأي بأن الأحزاب السياسية في ألمانيا تتمتع بثقة ٢٣ بالمئة فقط من الشعب مقارنة بـ٧٧ بالمئة للمحكمة الدستورية و ٤٨ بالمئة للبرلمان في عام ٢٠٠٩. و تؤكد الإستطلاعات أن الثقة ضعيفة ليس فقط في الأحزاب وفي الطبقة السياسية وإنما أيضا بقدرتها على مواجهة التحديات وحل المشاكل المستجدة التي تواجه المجتمع والدولة. بغض النظر عن نظرة المجتمع للأحزاب فإنه تجدر الإشارة إلى أن نسبة المنتمين للأحزاب في ألمانيا لا تتجاوز ٣ بالمئة من عدد سكان ألمانيا، كما أن نسبة المشاركين في اللقاءات الحزبية لا تتجاوز ٢٥ بالمئة من أعداد منتسبيها. كما أن القرارات المهمة لا تتخذ إلا في دوائر ضيقة جدا و في الإجتماعات العامة يتم الإعلان عنها فقط للتصويت عليها.
دروس مستفادة للأحزاب الجديدة في سوريا
على المجموعات السورية الراغبة بتأسيس أحزاب سياسية في بيئة الثورة السورية أخذ العديد من العقبات النفسية والإجتماعية الناتجة عن فقدان الثقة بالأحزاب السياسية وكذلك فقدان الثقة بالنخبة السياسية في عين الإعتبار لدى التخطيط لتأسيس الحزب الجديد. حيث أن بيئة الثورة الناشئة في ظل فراغ الدولة والتمرد عليها أدى لزيادة مشاعر عدم الثقة والنقد المستمر للمجموعات والنخبة السياسية. وبالتالي فإن أي مجموعة عمل تهدف إلى إنشاء حزب سياسي عليها بداية العمل على خلق جسور من الثقة مع المجموعات الفاعلة والشرائح الشعبية. حيث يمكن تعداد الأدوات التالية المساعدة على بناء الثقة على سبيل المثال لا الحصر:
-
فتح الباب أما أنواع جديدة من الإنتساب والمشاركة الحزبية
-
فصل الإيديولوجيا عن البرامج السياسية العملية للحزب
-
إستخدام أشكال التواصل الحديث
-
رفع سوية الممارسة الديمقراطية داخل الحزب
-
فتح الباب أما أنواع جديدة من الإنتساب و المشاركة الحزبية:
العديد من الأفراد والشباب في سوريا يتحرج من الإنتساب للأحزاب الناشئة حديثا، كما أن حداثة عهدها وضعف خبرتها يدفع الكثيرين للتريث قبل إتخاذ قرار من هذا النوع. لذلك فإنه ينبغي لهذه الأحزاب تقديم أشكال جديدة من الإنتساب الغير ملزم أو الإنتساب الحزبي التجريبي أو إنتساب محدود الصلاحيات و الواجبات أو إنتساب حزبي كضيف ويمكن إبداع غير ذلك العديد من أشكال الإنتساب. و الهدف من هذه الأشكال هو خلق حالة مرنة من الإرتباط تناسب ثقافة و عقلية الشباب اليوم التي لا تحبذ الإلتزام بإيديولوجيا معينة أو واجبات ثابتة وتعلي من قيمة المرونة والعملية والإستقلالية بشكل كبير.
-
فصل الإيديولوجيا عن البرامج السياسية العملية للحزب:
كما تقدم فيما سبق: يجب أن تتجنب الأحزاب في بيئة الثورة إنشاء جيوب الإقصاء على أساس إيديلوجي، وذلك من خلال تبني برامج عمل غير مؤدلجة تتيح الفرصة للمشاركة لكل من يرغب في العمل. وبالتالي تكون المشاركة في الحزب وفي برامج العمل مفتوحة وممكنة لكافة السوريين، حيث تكون معايير الإستمرار في المشاركة هي القدرة على العطاء، بدل من إعتماد معايير ترشيحية للمشاركة في العمل.
-
إستخدام أشكال التواصل الحديث:
وسائل الإتصال الحديثة لا يتوقف توظيفها على الصراعات الإنتخابية و إنما أيضا للتواصل بين الأعضاء من خلال توفير شبكة داخلية للأعضاء تزودهم بمعلومات خاصة بهم و طرق للتواصل و التراسل فيما بينهم بما يتفق مع ثقافة العصر وتطور وسرعة إنتقال المعلومة.كما أنه يمكن للإستخدام المنهجي والمنظم لهذه الوسائل أن يساعد في رفع مستويات الشفافية بما يرفع حظوظ بناء الثقة مع المجتمعات المحلية والأشخاص الفاعلين. معظم المجموعات الفاعلة تستخدم الفيسبوك و اليوتيوب و التويتر مما يجعل التواصل أسهل يرفع الشفافية و بالتالي يرفع جاذبية الأحزاب الجديدة.
-
رفع سوية الممارسة الديمقراطية داخل الحزب:
شعور الأعضاء بتمتعهم بميزات وقدرتهم على المشاركة الفعالة بإتخاذ القرار في الحزب ترفع من نسب بقائهم في الحزب ومن جاذبية دخول الأعضاء في الحزب. وبالتالي سيكون هناك ضرورة لإعتماد آليات بيروقراطية مرنة بالشكل الذي يوسع إمكانيات التشاركية والمساهمة في القرارات الحزبية.
في جميع الأحوال لا يمكن الإستغناء عن الأحزاب في أي دولة ديمقراطية كأحد الأركان الرئيسية للنظام السياسي الديمقراطي.
إن فشل مجموعات العمل السياسية في تحولها إلى أحزاب سياسية على المدى المتوسط والطويل سيساهم من جهة في تعميق واقع الفوضى السياسية المفتقدة للمعايير والمبادئ الناظمة للعمل السياسي في سوريا، كما أنه سيساهم في دعم نمو الجماعات المتطرفة التي تسعى لممارسة دور سياسي خارج الأطر التنظيمية المتعارف عليها في الدول المستقرة. وسيساهم أيضا في دعم نمو الجماعت الفئوية والمصلحية ذات المصالح الضيقة وذلك لقدرتها على بناء علاقات وصلات أمتن بالقاعدة الشعبية في محيطها المحلي التي تعمل به وتمثل مصالح بعض أفراده.
تم نشره على موقع معهد العالم للدراسات في في ١٠ تشرين الثاني ٢٠١٦ تحت الرابط التالي: اضغط هنا