خواطر في تجربة المعارضة السورية في مدينة حمص
homs1

بعد حصار خانق إستمر أكثر من 688 يوما, أقلت عدة حافلات حكومية بإشراف الهلال الأحمر و برعاية الأمم المتحدة حوالي ٩٨٠ مقاتلا والعديد من المدنيين كانوا محاصرين في مدينة حمص القديمة إلى بلدة الدار الكبيرة في ريف حمص الشمالي, كي تقوم قوات النظام السوري بعد ذلك بدخول المدينة وتصوير العملية على أنها إنتصارا وإختراقا ضخما للنظام السوري.

 

 

❏       خلفية الإتفاق والمشهد الدولي

 

❏       ضرورة التقييم عند نهاية كل مرحلة

 

❏       محدودية الإمكانيات

 

❏       القدرة على المبادرة

 

❏       إستراتيجيات النظام

 

❏       إستراتيجيات الإنتصار

 

من اللافت في هذا الإتفاق هو عدم التوازن في الصفقة المبرمة كما تم الإعلان عنها, حيث لم يتم التعامل على أساس فك الحصار عن مدينتي نبل والزهراء مقابل فك الحصار عن حمص, وإنما تم إخراج المقاتلين من حمص مقابل فك الحصار عن مدينتي نبل والزهراء, وتسليم العديد من الأسرى متعددي الجنسيات للنظام السوري, دون أن يشمل الإتفاق إطلاق سراح معتقلين أو معتقلات لدى النظام  كما جرت عليه العادة. ولم يشمل الإتفاق فك الحصار عن مناطق أخرى يحاصرها النظام مثل مخيم اليرموك. كما أنه من اللافت أيضا أن الجهة التي دفعت الثمن من طرف المعارضة السورية المسلحة هي ليست نفسها الجهة المستفيدة, حيث أن الأسرى متعددي الجنسيات كانوا لدى جيش الإسلام (الجبهة الإسلامية), مع العلم أن هذا الأخير لا يمتلك إلا مكونات محدودة جدا في حمص. وكذلك فإن الإتفاق تم إبرامه برعاية الأمم المتحدة, أي أنه نتيجة تفاهم أمريكي روسي. فكما هو معروف فإنه من غير الممكن أن تقوم الأمم المتحدة برعاية إتفاق من هذا النوع دون الضوء الأخضر الأمريكي. وبالتالي فهل نحن أمام تفاهم أمريكي- روسي -إيراني, ليست الإتفاقية الأخيرة إلا أحد أجزاءه الظاهرة لنا اليوم؟

إنفعال الرئيس الأمريكي باراك أوباما لدى إجابته على أسئلة مراسل قناة فوكس نيوز في نهاية نيسان الماضي يعطي مؤشرا عن حجم الضغوطات التي يتعرض لها من أجل المبادرة إلى إتخاذ إجراءات واضحة في الملف السوري. فالرئيس الأمريكي يرغب اليوم بإتخاذ دور أكثر فاعلية في الملف السوري, إلا أن هذه الإجراءات لن تكون عسكرية حتما, مما يعني أن الولايات المتحدة ستدفع للوصول إلى تفاهمات واسعة تؤدي إلى تبريد الصراع الحالي دون السعي لحله.

إعلان السعودية إستعدادها للتفاوض مع إيران, بالتزامن مع وجود وفد رئاسة الإئتلاف في الولايات المتحدة يؤكد وجود نشاط ديبلوماسي أمريكي - سعودي خلف الكواليس يدفع فعلا في إتجاه الوصول إلى تفاهمات عريضة. 

على كل حال فإن صورة الإتفاق الظاهرة توحي بأن الثمن الذي قدمته المعارضة المسلحة كبير جدا وغير متوازن, نظرا لضعف أدوات المعارضة ومحدودية إمكانياتها.  تفاصيل وحيثيات عملية خروج المقاتلين من حمص تترك الكثير من الأسئلة المفتوحة والتي تشير إلى تفاهمات أوسع من إتفاق حمص.وربما تجيب عنها الأحداث في قابل الأيام.

ضرورة التقييم عند نهاية كل مرحلة

أما على الصعيد الشعبي فقد إختلفت التعليقات والتصريحات الصادرة عن الجهات المختلقة ما بين شامت وناقد ومتفائل بالإتفاق الذي تم إبرامه. أغلب الإعلاميين المحسوبين على الأوساط الثورية آثروا مشاهدة نصف الكأس الملئان, فأفاضوا في وصف بطولة المقاتلين المحاصرين وإمتداح صمودهم وبطولتهم. وعملوا على تبرير خروج المقاتلين من المدينة, حيث لم يكن هناك بد من الإتفاق على خروجهم بعد أن أوصلهم الحصار إلى حالة من الجمود, تبدو كحلقة مستعصية ويصعب كسرها, مما يجعل الإستمرار على هذه الحال نوع من الإنتحار البطيء.

قد يصح القول بإن خروج المقاتلين من حمص ودخول قوات النظام إليها لا يحمل أي بعد إستراتيجي قد يغير مجرى المعركة مع النظام. فالمكسب الحقيقي للنظام من هذه الصفقة هو الإنتصار المعنوي والإعلامي, بالإضافة إلى تسلمه الضابط الروسي والمحتجزين الإيرانيين, الذين كانوا أسرى لدى قوات المعارضة, وكذلك فك الحصار عن قريتي نبل والزهراء في محافظة إدلب.

إلا أن رمزية الحدث تستدعي من المعارضة السورية اليوم بكافة تشكيلاتها وتصنيفاتها القيام بمراجعة حقيقية لمسارها وأدائها في حربها مع النظام. كما تتطلب منها القيام بتقييم موضوعي للمرحلة الماضية وأساليبها وإستراتيجيتها: فما فائدة تحرير القصير والقلمون والمعضمية ومخيم اليرموك ومدينة حمص وغيرها من المناطق السورية, طالما أن النظام يمتلك القدرة على إسترجاعها مرة أخرى بعد تدميرها وتهجير أهلها, وبعد إستنزاف موارد المعارضة المحدودة في إمداد المقاتلين وإيواء المهجرين ومعالجة الجرحى وغير ذلك من آثار الحرب؟

وهل المعركة مع النظام هي حرب تحرير تهدف إلى تحقيق السيطرة على أكبر قدر ممكن من الجغرافيا عبر حرب تقليدية بين جيوش نظامية, أم هي حرب إستنزاف تقوم على تكتيكات حرب العصابات وتهدف إلى إضعاف النظام عبر إستنزافه سعيا لإسقاطه؟

Homs

محدودية الإمكانيات

الواقع ليس إلا سلسلة من المحدوديات الحادة التي تطول جميع الكائنات الحية, حيث يقف الموت على رأس هذه المحدوديات. لا يملك الإنسان إلا طاقة معينة وموارد محدودة لينفقها قبل أن يلامس حدود إمكانياته. إستعادة قوات النظام لقلب مدينة حمص وقبل ذلك القصير وباب عمرو ويبرود والعديد من المدن السورية الأخرى, ليس إلا مثال آخر على محدودية القدرات والإمكانات, الأمر الذي يجب أخذه في عين الإعتبار قبل الدخول في أي معركة.

ثقافة تقديس البطولة والرجولة والصمود قد تعمل على تشكيل غشاوة كثيفة على أعين الإنسان, فتحول دون رؤيته للواقع كما هو, وتحول دون فهم موازين القوى على حقيقتها. المتابع لتصريحات المقاتلين الذين خرجوا من حمص يشعر وكأن الصمود والبطولة هما هدفين لذاتيهما. قد ينسى البعض في خضم الأجواء الإنفعالية أن هذه الخصال الحميدة هي وسائل لتحقيق النصر في المعركة, وأن الأمور بخواتيمها.

تعمل وسائل الإعلام عادة على التركيز على المعارك الكبيرة التي فيها نوع من الإثارة, سواء في السياسة أو الحرب. أي أن التركيز يكون على الأوضاع الحدية التي يكون فيها منتصر ومهزوم, وينجذب الناس إلى الإثارة الدرامية في أي مواجهة, لا إلى الخطوات العديدة التي سبقت المواجهة وأدت إليها.

ثقافتنا العربية  تروي العديد من القصص التي تصب كلها على توصيف لحظة المواجهة مع العدو وتؤكد على الموعظة الأخلاقية والحماسية, بينما من النادر أن يتم الإلتفات إلى الخطوات التحضيرية العديدة التي تسبق المواجهة. كما أن المجتمعات العربية بشكل عام تنظر إلى هذه المواجهة على أنها مفاصلة بين الحق والباطل وبالتالي فهي الأسلوب الأكثر رجولة وشرف في المعركة, حتى ولو إنتهت بهزيمة عسكرية, فلا بأس في ذلك, طالما أن الأبطال إستشهدوا في سبيل نصرة الحق.

ولكن في الواقع العملي للحروب ليس المهم تحقيق النصر في جولة, بقدر ما هو مهم معرفة وإدراك أين سيضعنا هذا النصر في حال تحقيقه؟ ماذا سيحصل بعد تحرير المدن الداخلية التي لا تملك أي منفذ على البحر أو على دول الجوار كالمعضمية ومخيم اليرموك وحمص القديمة؟

يجب التعامل مع كل معركة وكل مرحلة على أنها باب يتم الإنطلاق منه إلى مابعده, ومن الخطأ النظر لها على أنها نهاية أو جدار نقف عنده. وفي حال كان من العسير تحديد ماهي المرحلة التالية وأين سنكون بعد تحقيق النصر, وكان النجاح مغريا (كتحرير حمص على سبيل المثال) والفشل خطيرا, فسيكون خوض هذه المعركة نوع من المقامرة. النهاية الحقيقية في هذه الحياة هي الموت, وكل ما عداها هو حالة إنتقال. وفي جميع الأحوال قد يضطر الإنسان في بعض الأحيان بالقبول بالمبدأ القائل: هزيمة ذات آثار سلبية أهون شرا من كارثة ذات نتائج بعيدة الأمد. هذا ما أدركه الخارجون من حمص بعد إنتظار طويل ومعاناة شديدة.

القدرة على المبادرة

يفرض النظام ديناميكيته وإيقاعه في المعركة التي فرضها على الشعب السوري, حيث إستطاع منذ بداية الثورة وضع الناشطين في معضلات لا تنتهي, فالهجوم وتحرير المدن يجلب الدمار لها والتشريد لأهلها, كما أنه ينقل مسؤولية إعالة من بقي منهم للمعارضة ذات الموارد المحدودة. أما الإنتظار في ظل الظروف التي خلقها النظام في الداخل السوري وفي ظل ندرة الأدوات وضعف البدائل, فسيعني الإنتقال لحالة الموت البطيء نتيجة ضعف الموارد وفقدان المبادرة التي يتمتع بها النظام.

كما أن تحرير المدن قد لا يساهم بالضرورة بشكل محوري في تحقيق هدف إسقاط النظام, حيث أن تحقيق السيطرة على الأرض والحفاظ عليها مرتبط بشكل مباشر بميزان القوى على الأرض, ومرتبط كذلك بكفاءة وفعالية إستخدام الرقعة الجغرافية المكتسبة. فكما شاهدنا خلال السنوات الثلاثة الماضية وحتى اليوم فإن تحرير باب عمرو والقصير ويبرود وغيرهم من المدن لم يمنع النظام من إستعادتهم عسكريا, ولكن بعد تدميرهم وتشريد الأهالي منهم. كما أن تحرير المعضمية والمخيم وببيلا, لم يمنع من إخراجهم من الحسابات العسكرية بعد التضييق عليهم بالحصار وإضطرار الأهالي هناك للبحث عن هدنة مع النظام في ظل عجز الطرف الآخر عن توفير الحاجات الأساسية لإستمرار الحياة فيهم.

إن تحقيق الإنتصار في المعركة من جهة المعارضة يتطلب إستعادة السيطرة الديناميكية على ساحة المعركة في كل منطقة ساخنة على الأقل, بمعنى إستعادة المبادرة من النظام ونقله إلى مربع رد الفعل. وهذا مالا يمكن تحصيله من خلال سياسة تحرير المدن, إذ أن القوات في المدن المحررة ستنتقل إلى مفهوم الدفاع بعد أن يقع على عاتقها مسؤولية إدارة الشؤون المدنية فيها وتأمين إحتياجات الأهالي.

إستعادة المبادرة وفرض الديناميكية والإيقاع على أرض المعركة لا يتطلب تفوق بالقوة العسكرية, وإنما يتطلب تفوق بالتكتيكات ويتطلب قبل ذلك الفهم والإدراك الصحيح للمعركة العسكرية مع النظام في إطارها الأوسع والشامل, حيث يتوجب الإنتباه إلى الأبعاد الإجتماعية للشرائح الداعمة للنظام وكذلك أخذ الأبعاد الإقتصادية للشرائح المدينية المتحالفة معه في عين الإعتبار. وكذلك السياسية الدولية.

تشظي المعارضة وتعدد الكتائب والتشكيلات سيقف حائلا دون القدرة على إدارة المعركة بشكل فعال, ولكن لا يوجد عوائق موضوعية تحول دون تشكيل غرف عمليات إستراتيجية على مستوى المناطق على الأقل للتعامل مع المعركة مع النظام في أطار أشمل. لا يمكن إستعادة المبادرة والسيطرة على ديناميكية المعركة بدون توفر حد أدنى من الإنضباط والإنسجام والتنسيق بين جميع القوى الفاعلة والعاملة في الخندق الواحد.

إستراتيجيات النظام

الحرب نشاط لا يمكن فصله عن باقي النشاطات الإجتماعية في المجتمع. فالحرب في الواقع هي إحدى أشكال التنافس على النفوذ والسيطرة من خلال إستعمال عوامل القوة بكافة أشكالها, وتوظيفها لإرغام الطرف الآخر على الإذعان أو التخلص منه بشكل كامل.

إستطاع النظام مراكمة العديد من عوامل القوة التي أحسن إستخدامها بنجاح مما أعطاه القدرة على الإستمرار حتى اليوم رغم خروج أغلب الأراضي السورية من تحت سيطرته المباشرة وخسائره البشرية والمادية الفادحة. ويمكن كذلك رصد إزدياد قدراته خلال الأشهر الأخيرة على إستعادة زمام المبادرة على الصعيد الداخلي وخاصة من خلال سياسة الهدنات والمصالحة التي نفذها بنجاح نسبيا في العديد من مدن الريف الدمشقي ثم في مدينة حمص مؤخرا.  يمكن إجمال عوامل القوة هذه بما يلي:

إستطاع النظام الإبداع في إستثمار عناصر قوته في إستراتيجيات ناجحة إلى حد ما, والتي قام بتوظيفها بفعالية. يمكن تعداد السياسات التالية التي لم يقتصر إستخدامها على مدينة حمص فحسب:

homs1

إستراتيجيات الإنتصار

تتميز كتائب الثوار بخفة الحركة وسرعتها وقدرتها على المناورة مقارنة بقوات النظام الخاضعة لتراتبية هرمية تقيد حركتها وتباطؤ من سرعة حركتها. يمكن الإستفادة من هذه الميزة في حال تم التمكن من تحويلها إلى قدرات تدميرية من خلال القدرة العالية على التخطيط والتنسيق لتحقيق أهداف معينة ومختارة بعناية. من أجل نجاح هذه الإستراتيجية يجب تحقيق ثلاثة شروط: مجموعات متحركة قليلة العدد وصغيرة الحجم, والتنسيق الكامل بين المجموعات المختلفة, والقدرة على إيصال الأوامر صعودا ونزولا عبر سلسلة القيادة. وذلك  بهدف خلق فوضى لدى المعسكر الآخر من خلال الحركة السريعة وعامل المفاجأة.

هذه الميزة يمكن الإستفادة منها في الهجمات الخاطفة المتعارف عليها في حروب العصابات بشكل أساسي ويمكن إستعماها لإشغال النظام بشكل دائم وتحويله إلى موقف دفاعي يفقد فيه المبادرة.  إلا أن تحرير المدن ثم الدفاع ضمن مساحات جغرافية محصورة يفقد هذه الكتائب ميزة المناورة والحركة السريعة . بل العكس, حيث تغدو مجموعات المعارضة المسلحة رهينة ردود الأفعال.

كما أن التعامل مع الصراع مع النظام على أنه معركة عسكرية فقط, يستجر الكثيرين للإستجابة إلى إغراء الإنتقام وإستنساخ وحشية النظام في تعامله مع أعداءه. إهمال الجانب الثقافي والسياسي يؤدي بأنصار الثورة لحرمانهم من القدرة على تقديم النموذج البديل, والمناقض للنظام والنافي لشرعية وجوده. صور قطع رؤوس الميليشيات الطائفية القادمة من اللبنان والعراق تترك الإنطباع لدى المشاهد بأن القاتل والمقتول ينتمون إلى نفس المنظومة الفكرية الثقافية والسياسية المتوحشة والتي لن تتمكن من إنتاج نظام جديد يختلف عن نظام الأسد. وبالتالي يتوجب عندها تفهم مقولة أعدقاء سوريا: "شيطان نعرفه أفضل من شيطان لا نعرفه". كما أن هبوط ردود الأفعال إلى مستوى أفعال النظام ستؤدي إلى تكيف النظام مع ذلك عبر الغرق إلى مستوى أكثر قذارة في حركة حلزونية تتجه نحو الأسفل.

النصر يحتاج إستراتيجيات مناسبة ودقيقة. وهذه تتطلب بدورها عقلانية وموضوعية للتعامل مع الواقع كما هو وليس كما نتمناه, كما أنها تحتاج إلى المواهب الإدارية والقدرات التنفيذية والأشخاص العمليون. وتحتاج كذلك مجموعات عمل منظمة متفقة على الهدف الرئيسي وإن تعددت طرقها للوصول له.

لا شك بأن الناشطين والمقاتلين والمعارضة السياسية يعملون جميعا على مراكمة العديد من الخبرات الضرورية من أجل الوصول إلى المستوى اللازم لإنجاز أهداف الثورة بإسقاط النظام وبناء الدول السورية الجديدة. فكل نجاح يسبقه حتما العديد من التجارب الفاشلة. ولكن الإعتراف بالفشل حين وقوعه, ثم تقييم التجربة والتعلم منها يعد شرطا أساسيا من أجل الوصول إلى النجاح.


 

 تم نشره في تاريخ ٢١ أيار ٢٠١٤ على موقع أورينت نت تحت الرابط: اضغط هنا