البيدق السوري والتنافس الاقليمي
التنافس الاقليمي على الرقعة السورية
تقترب الثورة السورية اليوم من دخول عامها الخامس، في الوقت الذي تشهد فيه العديد من الدول الغربية عملية مراجعة وتقييم لسياساتها العسكرية والأمنية والسياسية في الشرق الاوسط على خلفية حادثة اغتيال الصحفيين في باريس والشهيرة بعملية "شارلي إيبدو". حيث أكدت فداحة الحادثة لصناع السياسة في العالم أن استراتيجية الانتظار الهادفة لتحويل سوريا إلى محرقة للإرهابيين من جميع التصنيفات لم تسفر إلا عن تحويل الثورة السورية من أزمة إقليمية إلى مشكلة عالمية تطال نيرانها دول أوروبا الآمنة. فقد أصبح للإرهابيين اليوم قاعدة خلفية ذات إمكانيات هائلة، يتلقون فيها التدريب والتمويل وكافة أشكال الدعم والتنسيق اللوجستي، إبتداء من مرحلة الاستقطاب والتجنيد وانتهاء بتنفيذ عمليات إرهابية على الأراضي الاوروبية.
فجاء اجتماع رؤساء وملوك لأكثر من أربعين دولة في تظاهرة باريس في مشهد معبر ليس فقط عن التضامن مع فرنسا، بل وعن فهم جديد لطبيعة الأزمة بما يوحي باقتراب اتخاذ مساع جديدة هادفة لتصحيح مسار السياسة الغربية في سوريا. إلا أن عدم مشاركة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في هذه التظاهرة بعث أيضا برسالة خفية توحي بعدم رغبته في اجراء اي تغيير حقيقي على سياسته الحالية في سوريا. أو بالأصح، بعدم رغبته في تبني سياسة فاعلة في سوريا وذلك لإن الإدارة الأمريكية تملك سياسة محددة حيال ما يجب فعله في العراق لمحاربة تنظيم الدولة الاسلامية هناك، وذلك فقط من أجل الخروج من دائرة المسؤولية المترتبة عليها تجاه ذلك البلد الذي قوضت أركانه في ما مضى. أما حيال سوريا فلا يوجد لديها أي استراتيجية محددة سوى سياسة الانتظار ومطالبة الأطراف الإقليمية بالتوصل إلى تفاهمات فيما بينهم تعمل على حل الأزمة بما يحافظ على بنية الدولة السورية ودون أي تدخل أمريكي عسكري مباشر في سوريا.
إيران
ولكن القوى الإقليمية لا زالت منقسمة فيما بينها بشدة، ففي حين لا زالت إيران تمد النظام السوري بكافة أسباب الحياة والاستمرار، إلا أن ثبات واستقرار النظام السوري لم يعد أولويتها الأولى، حيث أصبح السعي لخلق وتشكيل ميليشيات عسكرية محلية وقوية قادرة على حماية مصالحها هي الأولوية العليا لإيران، بغض النظر عن اسم الحاكم القابع في دمشق. فالعديد من المعلومات الواردة من داخل المنظومة العسكرية والأمنية لنظام الأسد تأكد توسع وانتشار عملية خصخصة الميليشيات الشيعية المنتشرة في سوريا وربطها مباشرة بالحرس الثوري الإيراني دون مرور سلسلة القيادة عبر النظام السوري. الامر الذي يؤكد ضعف ثقة النظام الإيراني بقدرة الأسد على الاستمرار ضمن المعطيات الحالية. وبالتالي ستشكل هذه الميليشيات ذراع عسكري لإيران يعمل على إضعاف وزعزعة أمن أي حكومة أو نظام جديد يأتي بعد انهيار الأسد، كما أنها ستكون ورقة تفاوضية مرتفعة الثمن في لعبة تبادل المصالح مع القوى الإقليمية والدولية، خاصة بعد أن أثبت هذا الأسلوب نجاعته في اللبنان واليمن.
رغم ذلك تصر إيران في جميع اللقاءات السياسية وعبر الرسائل التي يحملها موفدوها على أن بشار الأسد هو خط أحمر ولا يمكن تصور أي حل سياسي بدونه، على الأقل في الحلقة الأولى من حلقات مسلسل الحل السياسي. حيث ترغب القيادة الايرانية برؤية حكومة سورية صديقة وقادرة على اسباغ الشرعية والصفة القانونية على الميليشيات الشيعية المنتشرة في بلد يشكل فيه السنة الأغلبية. كما أن بعض المطلعين على خبايا السياسة الإيرانية الداخلية يعزون تمسكها بالاسد أيضا إلى خوف إيران من ترك إنطباع لدى حلفائها بأنها يمكن أن تتنازل عنهم أو تستخدمهم كأوراق تفاوضية في مرحلة من المراحل. أضف إلى ذلك أن قضية استمرار بشار الأسد تحولت إلى بازار للمزاودة في الكبرياء القومية والدينية في الخطاب الداخلي الإيراني. الجدير بالذكر بإن إيران هي الطرف الاقليمي الوحيد الذي يعمل على معاظمة ومراكمة انجازاته في سوريا بشكل منهجي مع مرور الوقت، وبالتالي فهي المستفيد الاكبر في المنطقة من استمرار الازمة حيث أنها تعمل على استغلال الوقت في تغيير الوقائع على الأرض بما يخدم مصالحها على المدى المتوسط والبعيد.
العربية السعودية
أما تركيا وقطر والعربية السعودية فلا زالوا مصرين على حل سياسي يبدأ بخروج بشار الأسد رغم إرسال الأخيرة إشارات عديدة لقبولها باستمرار النظام الامني والعسكري في السيطرة على مقاليد الحياة في سوريا تحت قيادة شخصيات تنتمي للطائفة العلوية. فالمملكة العربية السعودية رغم أنها تقدم الدعم لبعض الكتائب الاسلامية السلفية في سوريا، إلا أنها معنية بشكل أساسي بإيجاد نظام سياسي علماني في سوريا يشكل قطيعة مع أي شكل من أشكال الأسلام السياسي الذي يمكن أن ينافسها شرعية تمثيل الاسلام عالميا أو ربما يمكن أن يقدم نموذجا بديلا قادر على المزاوجة بين الحداثة والاسلام وهو ما سيعني عمليا دورانه في الفلك التركي، وكذلك قدرته على تقديم بديل جذاب للشباب السعودي والعربي الفاعل والطامح للالتحاق بركب الحداثة والتطور في العالم. أما الدعم المقدم للكتائب السلفية في سوريا فإن الهدف منه الحفاظ على حد أدنى من القدرة على التأثير في مجريات الأحداث الميدانية في سوريا لاستثمار هذه القدرات في بازرات السياسة.
وفي سبيل الضغط على روسيا وإيران من أجل دفعهما للقبول بحل سياسي على غرار الحل اليمني، استطاعت المملكة توظيف قدرتها في التحكم بأسعار النفط بشكل فعال ومؤثر. إلا أن تكاليف التدخل العسكري لإيران في سوريا تعد ضئيلة جدا مقارنة بفعاليتها نظرا لاعتمادها بشكل أساسي على المتطوعين من الشيعة وعلى تدريب القوات المحلية من سوريا واللبنان والعراق. الامر الذي قد يؤدي إلى ضغوطات حقيقية على روسيا تخدم من حيث النتيجة المصالح الأوروبية والامريكية، الا انه لن يدفع ايران الى تغيير سياستها الحالية تجاه سوريا.
قطر وتركيا
في حين تتفق قطر وتركيا مع العربية السعودية بضرورة التوصل إلى حل سياسي لا يكون الأسد جزء منه، إلا أنهم يختلفون في أغلب التفاصيل التي تتبع ذلك. فالحكومة التركية تسعى اليوم لإقامة منطقة عازلة في الشمال قادرة على إيواء اللاجئين وفي نفس الوقت قادرة على توفير قاعدة خلفية للمعارضة ومؤسساتها وللجمعيات الأهلية والاغاثية المهتمة بالشأن السوري. حيث يمكن لتركيا أن تتخفف من الحمل الاجتماعي والأمني الثقيل لتواجد أكثر من مليوني سوري على أراضيها ولو نسبيا من خلال حصر النشاطات السياسية والعملية الخاصة بالسوريين في هذه المنطقة خارج الحدود السورية. في حين أن تحقيق هذا المسعى سيسمح بخلق نوع من الاستقرار في هذه المناطق، فإن هذا الإستقرار سيؤدي بدوره إلى عودة بعض النازحين إلى هذه المناطق وعودة عجلة الحياة والإقتصاد في هذه الأماكن للدوران، مما سيعمل على إعادة بناء الأطر والهياكل الإجتماعية والسياسية الكفيلة بالسماح بخروج قيادة مدنية إجتماعية يمكنها تمثيل المعارضة بشكل حقيقي وجدي والتفاوض عنها.
أي أنه على المدى المتوسط والبعيد قد يؤدي هذا التقدم في حال حدوثه إلى انتاج مؤسسات سياسية سورية قادرة على تمثيل الناس والقيام بخدمتهم وقادرة على تشكيل بديل لنظام الأسد. والجدير بالذكر، أنه لا يوجد أي تفسير لتدمير أكثر من ثلث حلب بالبراميل المتفجرة إلا رغبة الأسد بعدم السماح للمناطق الخارجة عن سيطرته أن تنعم بشيء من الإستقرار، وذلك لقناعته بإن الهدوء النسبي والإستقرار في تلك المناطق هو الطريق الوحيد نحو بناء بنى إجتماعية وسياسية جديدة في تلك المناطق، بما يسمح بظهور قيادات إجتماعية وسياسية جديدة تمثل مصالح هذه المناطق وتستطيع تقديم نموذج بديل والدخول كذلك في عمليات تفاوض حقيقية مع الأطراف الأخرى.
سوريا إلى أين؟
من حيث النتيجة تمتلك الدول الاقليمية الفاعلة رؤى متضاربة عن الكيفية الأمثل للوصول إلى حل سياسي يحقق مصالح كافة الاطراف ويؤدي إلى إنهاء الحرب في الحالة السورية. الامر الذي حال دون تمكن القوى الرئيسية الكبرى للوصول إلى موقف توفيقي بين الأطراف، يحفظ ماء الوجه لإيران ويلقى القبول لدى العربية السعودية ولدى تركيا.
في هذه الأثناء فقدت التشكيلات السورية المعارضة أغلب مقدرات التأثير وصناعة الفعل السياسي والمبادرة السياسية مما أدى إلى تحول الأزمة السورية إلى صراع مشاريع إقليمية وعالمية على أرض سوريا وبدماء أبنائها. في حين تحول السوريون من بيدق يمتلك القدرة على التأثير في لعبة الأمم إلى الرقعة نفسها التي تدير عليها الأمم ألعابها.
وبناء على ماسبق تاكد معظم مراكز الأبحاث الغربية بإن الازمة السورية ستستمر لسنوات طويلة أخرى, طالما أن عجلة النزاع بين الأطراف الدولية والإقليمية مستمرة بالدوران في غياب قدرة المعارضة السورية على التأثير عليها بشكل فاعل. إلا أن يحدث تغيير جذري مفاجئ لدى أحد طرفي الصراع يؤدي إلى تغيير جذري وغير متوقع، عندها سيتغير شكل الصراع وستتغير أدواته إلا أن الأزمة ستبقى مستمرة ولكن بأشكال جديدة.
تم نشره على موقع كلنا شركاء في ٢٣ كانون الثاني لعام ٢٠١٥ تحت الرابط التالي: اضغط هنا