رهانات العولمة في طريق مسدود

صعود اليمين في أوروبا وفي أمريكا
فرغم أن فوز دونالد ترامب بمقعد الرئاسة في الانتخابات الامريكية شكل صدمة شديدة للعديد من المراقبين، إلا أن هذا الحدث لم يخالف التوجه العام في المزاج الانتخابي الذي شهدته الدول الغربية الصناعية خلال العقدين الأخيرين. فقبل أشهر من ذلك قام الناخب البريطاني بالتصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وبعد فوز ترامب ظهرت دعوات على شبكة الانترنت تدعوا لانفصال كاليفورنيا عن الولايات المتحدة اقتداء بالنموذج البريطاني. وفي فرنسا تستعد مارين لوبن (النسخة الفرنسية لدونالد ترامب) لخوض الانتخابات الرئاسية في العام القادم، بعد أن نجح حزبها "الجبهة الوطنية" في الفوز في الانتخابات البلدية في ١١ مدينة في فرنسا. وكان قبل ذلك في الـ ٢٠١٤ قد تفوق في الانتخابات الأوروبية بفارق كبير على حزب “الاتحاد من أجل حركة شعبية” و"الحزب الاشتراكي" الحاكم. الامر الذي تم وصفه فيما مضى بـ "الزلزال السياسي" و "النتائج الصادمة".
أما في ألمانيا فقد أظهرت استطلاعات الرأي خلال العام الحالي تراجعا شديدا في شعبية المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بسبب سياستها المنفتحة والمتسامحة فيما يخص استقبال اللاجئين. في الوقت الذي أصبح فيه حزب البديل من أجل ألمانيا المعروف بعداءه الشديد للاسلام وللمهاجرين يتمتع بدعم 14 في المئة من الناخبين الالمان الأمر الذي سيشكل تحديا جديا للمحافظين وغيرهم من الأحزاب السياسية القديمة قبل استحقاق الانتخابات الاتحادية في 2017. في حين أظهر استطلاع آخر للرأي تم اعداده بتكليف من وكالة الأنباء الألمانية أن 51 في المئة من الألمان يرون أنه يجب حظر ارتداء الحجاب في المدارس. الامر الذي يشير إلى فجوة كبيرة بين القيّم التي تبشر بها أجهزة الدولة الرسمية من جهة، والداعية للتسامح وللمساواة بين الاعراق والاديان، وبين القيّم المنتشرة فعليا لدى أكثر من نصف الشعب الألماني من جهة أخرى.
ويمكن كذلك رصد زيادة ملحوظة للمشاعر المعادية للمهاجرين في الدول الأوروبية التي عرفت تقليديا بثقافة التسامح مع الأجانب. فجميع الاحصاءات تؤكد تزايد نسب الاعتداء على مراكز اللجوء وعلى المساجد والاجانب في الدنمارك والسويد والنمسا وكذلك في ألمانيا. ففي النمسا مثلا ذكر التقرير الصادر عن جهاز المخابرات الداخلية أن السلطات وجهت اتهامات في نحو 1690 قضية لها علاقة بالتطرف اليميني العام الماضي وهو أكبر عدد من هذه القضايا حتى الآن خلال عام واحد ويقارن مع 1200 قضية في العام 2014. على الرغم من ان النمسا تلقت أقل من مئة ألف طلب لجوء خلال عام ٢٠١٥.
صعود الشركات العابرة للقارات كلاعب دولي
منذ انهيار حائط برلين، انهارت معه وبالتدريج أغلب أدوات الاقتصاد الاجتماعي التي وفرت حد أدنى من الحماية للموظفين والعمال في ألمانيا الغربية وفي الدول التي تليها غربا. فبعد أن كان المواطن الالماني - على سبيل مثال - قبل عام ١٩٩٠ ينعم بنظام صحي شبه مجاني وبدل إجازة وافر وراتب تقاعدي محترم، أخذت الدول الغربية تلغي هذه الامتيازات التي كان الهدف منها تحقيق توازن مع المنافس الشيوعي الذي كان يقدم هذه الخدمات أيضا لمواطنيه. وخلال العقديين التاليين أعيد تنظيم أغلب قوانين العمل والشركات بالشكل الذي يسهل للشركات الكبرى نقل رؤوس الاموال وتنقل الافراد والخبرات عبر الحدود بشكل لم يسبق له مثيل. الامر الذي سمح لأغلب هذه الشركات بتحقيق هوامش ربح عالية، ومستويات نمو تجاوزت في بعض السنوات ضعف نسب نمو الناتج المحلي للدول التي تحتضن مركزها الرئيسي. ثم جاءت ثورة الاتصالات والانترنت كي تساهم في سرعة امتداد هذه الشركات عبر الحدود والقارات. الامر الذي أدى إلى خلق امبراطوريات مالية واقتصادية لم يسبق أن شهدت البشرية مثلها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تبلغ القيمة السوقية لشركة آبل ٥٣٤ مليار دولار وتبلغ قيمة مبيعاتها في الـ ٢٠١٥ ٢٣٣ مليار دولار، في حين بلغ دخل المملكة العربية السعودية من واردات النفط خلال نفس العام ١٣٠ مليار دولار. كما تبلغ القيمة السوقية لشركة Alphabet (الشركة الأم لـ “جوجل”) ٥٤٤ مليار دولار، في حين بلغت عائداتها في عام ٢٠١٥ حوالي ٧٥ مليار دولار. بينما بلغت عائدات دولة الكويت من النفط في نفس العام حوالي ٤٩ مليار دولار. كما أن القيمة السوقية لكل واحدة من هاتين الشركتين تفوق قيمة كامل صادرات دول أوبك من النفط والتي بلغت ٥١٨ مليار دولار في عام ٢٠١٥.
ترافق تمدد الشركات العابرة للقارات مع انتشار مجموعة من القيّم التي شكلت بدورها إيديولوجيا جديدة يمكن تسميتها بايديولوجيا العولمة. حيث تقوم هذه المنظومة الفكرية على تحرير الإنسان من القيود الاجتماعية والمحلية وتعمل على امداده بمجموعة من القيّم التي تسهل اندماجه في النموذج الاقتصادي الليبرالي الذي تستند له هذه الشركات. فمن هذه القيّم على سبيل المثال حرية التنقل وحرية الاقامة والتملك في كافة الدول الخاضعة لهذه المنظومة، وكذلك التسامح بين الاديان والاعراق، واحترام المرأة واحترام حقها بالعمل واحترام حقها بالاجهاض، والمساواة بين الجنسين، واحترام حقوق المثليين. كما تقوم هذه المنظومة كذلك بالتبشير بالديمقراطية الليبرالية كنظام سياسي يحتضن هذه القيم ويستند لليبرالية الاقتصادية التي تخلق العولمة وتتكأ عليها في آن.
العولمة سحقت الطبقات المتوسطة
أما على الطرف الآخر من هذه المعادلة فأصبح هناك الملايين من العمال ومن موظفي الطبقة الوسطى في العالم الغربي الذين يمتلكون الأمل والحلم في الثراء والرفاهية ولا يمتلكون الطريق إلى ذلك رغم أنهم يعملون بكد ولا يدخرون جهدا في سبيل تحسين وضعهم المعيشي. فعملية تراكم الثروات التي تخلقها الشركات العابرة للقارات والتي تمولها البنوك العابرة للدول لم تعد تسمح للأفراد المتوسطي التعليم أو لاصحاب الحرف بأكثر من العيش الكفاف وفي بعض الاحيان قد لا تسمح لهم بأكثر من العيش على الهامش الاعلى لحد الفقر. الامر الذي يعني أن الملايين من البشر في العالم الغربي الغني قد تحولوا إلى مسننات صغيرة تدير آلة العولمة الضخمة التي تعمل بدورها على سحقهم وتحويلهم لعبيد للبنوك وللشركات الكبرى. في الوقت الذي ينصب فيه اهتمام الشركات الكبرى على زيادة الارباح من خلال رفع الانتاجية وتخفيض النفقات بدون وجود أي اعتبار للإنسان أو للمجتمع الذي تعمل به هذه الشركات.
وبالتالي فإن انتقال شرائح عديدة من المجتمعات العاملة الغربية إلى مستويات اقتصادية أضعف، وكذلك تخوف أغلب الطبقة الوسطى من فقدان ابنائها القدرة على الصعود الاجتماعي في المستقبل، أصبح المحرك الرئيسي لرفض المنظومة القيمية المرافقة للعولمة. أي أن فقدان هذه المجتمعات الامل بالقدرة على تأمين ظروف أفضل وخوفهم من المستقبل، دفعهم للحنين إلى عصر ما قبل العولمة حيث كانت العلاقات الاقتصادية شديدة المحلية، وكذلك حيث كانت المجتمعات أكثر انغلاقا. وهذا بالضبط ما تدعو له الاحزاب اليمينة المتطرفة في أوروبا. وهذا ايضا ما التقطه دونالد ترامب في الولايات المتحدة. فقد قام ترامب بمغازلة الناخب الامريكي من خلال اطلاق الوعود باغلاق الحدود مع المكسيك من خلال بناء سور ضخم، وطرد الغرباء (غير البيض وغير الأمريكيين) ومنع دخول المسلمين ووضع حد للشركات الاجنبية في البلاد من خلال الاعتماد على المنتج الامريكي. وهو خطاب يعد الناخب الامريكي بالعودة إلى قيم الأصالة الامريكية التي كانت سائدة قبل العولمة.
وإن كان انتقال شرائح كبرى من المجتمع في بلداننا العربية إلى ما تحت حدود الفقر، وفقدان الامل بالمستقبل لدى الاجيال الصاعدة كان المسبب الاول للثورات العربية، فإن حالة مشابهة من حيث المبدأ مع اختلاف في الدرجة وفي المظهر صار يمكن رصدها في العالم الغربي. وليس صعود اليمين المتطرف أو النماذج الثقافية المنغلقة إلا رد فعل رافض للآثار السلبية التي أتت بها العولمة على الطبقات المتوسطة والدنيا في المجتمع، الامر الذي دفع هذه الشرائح للاحتجاج على آثار العولمة وقيمها.
ولكن في النهاية سيتوجب على الرئيس ترامب التعامل مع المؤسسات السياسية والاقتصادية التي انتجت العولمة وخلقت شركاتها، والتي اصبحت بدورها مرتهنة لهذه الشركات بأدواتها المالية والاعلامية العملاقة. وبالتالي سيتوجب عليه التراجع عن الكثير من الوعود التي اطلقها خلال حملته الانتخابية، تماما كما فعلت تيرزا باي بعد فوزها في الانتخابات البريطانية. فالجميع سيخضع في النهاية لقواعد اللعبة التي كانت أساس وصولهم لسدة الحكم وإن كان خطابهم الانتخابي معاد لها، وإلا فإنهم سيغادرون رأس هرم السلطة السياسية بأسرع مما وصلوا له.
تم نشره على موقع الهافينغتون بوست العربي في ٢٣ تشرين الثاني ٢٠١٦ تحت الرابط التالي: اضغط هنا