السياسة الألمانية وأزمة اللاجئين

تعد جمهورية ألمانيا الاتحادية أحد الوجهات الرئيسية لأغلب اللاجئين في العالم. فقد بلغ عدد طلبات اللجوء في ألمانيا حتى نهاية شهر حزيران من هذا العام حوالي ٢٠٣ آلاف طلب، أقل من ربعهم يعود لللاجئين السوريين، بينما تعود حوالي نصف الطلبات للاجئين من دول البلقان. في حين تتوقع الدولة الالمانية أن تصل طلبات اللجوء هذا العام إلى ٨٠٠ ألف طلب، لم تلحظ الميزانية المرصودة للاجئين لهذا العام أكثر من ٣٠٠ ألف لاجئ. الامر الذي شكل ضعطا هائلا على موارد الدولة بكافة أشكالها.

فمشهد اللاجئين النائمين في الحدائق العامة في برلين هو أمر غير معهود في ألمانيا على الإطلاق، مما دفع الحكومة لتحويل العديد من ملاعب كرة القدم والمدارس إلى صالات استقبال للمهاجرين. كما قامت العديد من الشركات الالمانية بتقديم المساعدات العينية والمالية للاجئين كشركة باير للادوية ومجموعة شبرينغر وشركة إيفونيك، في حين وضعت شركة سيمنس مقراتها الغير مأهولة في ميونخ تحت تصرف الحكومة من أجل إيواء اللاجئين. كما يجري النقاش الآن حول تحويل صالات معرض دوسلدورف الشهير إلى مقر مؤقت للاجئين.

في بداية العام الجاري كانت أزمة اليونان هي أكثر ما يشغل السياسيين والرأي العام في ألمانيا، إلا أن موجة اللاجئين الغير مسبوقة في تاريخ ألمانيا أجبرت الحكومة الالمانية على اتخاذ اجراءات عاجلة من أجل استيعاب الاعداد الكبيرة من اللاجئين قبل قدوم فصل الشتاء، حيث لايمكن للاجئين المبيت في الحدائق أو في الخيام الغير معدة بشكل جيد. فبالاضافة لحزمة القوانين التي صدرت خلال الأشهر القليلة الماضية، يعمل البرلمان الالماني (البوندستاغ) على اعداد حزمة جديدة من القوانين ستصدر في شهر تشرين الاول من اجل التعامل مع التحديات التي يفرضها وصول اللاجئين الجدد بأعداد كبيرة. فقد قامت الحكومة الالمانية هذا الاسبوع بتخصيص مبلغ مليار يورو كمساعدة عاجلة لمساعدة اللاجئين حيث سيتم بناء ١٥٠ ألف وحدة سكنية مناسبة للشتاء قبل نهاية العام الجاري. كما تم تخصيص ستة مليارات يورو جرى رصدها من الميزانية الاتحادية لعام ٢٠١٦ اضافة لثلاثة مليارات جرى تخصيصها سابقا، على أن يتم صرف نصفها للولايات الألمانية والمجالس المحلية مباشرة من أجل تأمين الخدمات والمرافق اللازمة للاجئين. في حين سيصدر التوزيع التفصيلي لهذا المبلغ مع نهاية الشهر الجاري، مع العلم أنه وفق القوانين الالمانية لا يحق للحكومة الفدرالية التعامل المالي المباشر مع المجالس المحلية إلا عبر الحكومات المحلية، لكن الضغط الكبير المترتب على هذه المجالس دفع السياسيين للبحث عن حلول مرنة من أجل التمكن من توليد استجابة سريعة للازمات الغير متوقعة. كما قررت الحكومة تخصيص  مبلغ ٤٠٠ مليون يورو لميزانية وزارة الخارجية للتعامل مع الازمات وخصصت قروض معفاه من الفوائد لمدة ثلاثين سنة من أجل بناء المرافق اللازمة لايواء اللاجئين. ولعله من حسن حظ اللاجئين أن الاقتصاد الالماني يمر في حالة جيدة جدا مقارنة بالدول الاوروبة المحيطة، حيث تشهد ألمانيا هذا العام أقل نسبة عاطلين عن العمل خلال الخمسة وعشرين سنة الماضية، الامر الذي يسر للحكومة مواجهة هذه المصاريف المالية الضخمة. فقد حاول وزير الاقتصاد الالماني سيغمار غابرييل بعث رسالة تطمين لدافعين الضرائب حيث صرح بإنه " لن يتم تغطية هذه المصاريف من ضرائب جديدة، فالاقتصاد الالماني قوي وقادر على تجاوز هذا التحدي".

ولكن لماذا تساعد ألمانيا اللاجئين؟

قامت وزارة الهجرة الدنماركية في بداية شهر أيلول من هذا العام بنشر إعلانات في الصحف اللبنانية بعنوان "أيها اللاجئون السوريون لا تأتوا إلى بلادنا"، كما أصدرت مجموعة قوانين قلصت بموجبها المساعدات الاجتماعية المقدمة للاجئين إلى النصف. وقبل ذلك صرح وزير الداخلية السلوفاكي “إيفان متيك”: إن “بلاده لن تقبل المهاجرين المسلمين؛ لأنهم لن يشعروا بالاستقرار، وبأنهم في وطنهم“. في حين اتبعت فرنسا وبريطانيا سياسة انتقائية في استقدام اللاجئين تسعى لاستقطاب النخب حصرا. على النقيض من ذلك أصدرت الحكومة الالمانية حزمة جديدة من القوانين تهدف لتيسير حياة اللاجئين الجدد وتسهيل اندماجهم في المجتمع الالماني وفي سوق العمل. فابتداء من شهر آب ٢٠١٥ يمكن لكل لاجئ وصل إلى ألمانيا بعد عام ٢٠١١ الحصول على الاقامة الدائمة بعد مرور ثلاث سنوات على لجوئه بغض النظر عن الاوضاع السياسية في البلد الاصل، كما أنها غضت النظر عن العمل باتفاقية دبلن بالنسبة للاجئين السوريين، والتي تنص على ارجاع طالب اللجوء الذي وصل إلى ألمانيا إلى أول دولة أوربية دخل إليها. الامر الذي أتاح لعشرات الآلاف من اللاجئين العالقين في هنغاريا الوصول إلى ألمانيا بعد ان تم تأمين باصات وقطارات عملت على نقل أكثر من 22 ألف لاجئ جديد خلال الاسبوع الجاري فقط.

الكثير من المتابعين لا يستطيع أن يتقبل فكرة أن ألمانيا تسهل اجراءات قبول اللاجئين لاسباب انسانية بالدرجة الاولى. ففي فرنسا هاجمت زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية مارين لوبان السياسات الالمانية وقالت إنها ألمانيا تريد تحويل هؤلاء اللاجئين إلى عبيد وتشغيلهم بأجور متدنية. في حين تناقلت صفحات التواصل الاجتماعي العربية العديد من التفسيرات التي تتنوع مابين الاعتقاد بوجود مؤامرة تستهدف افراغ سوريا من معارضين الاسد أو الاعتقاد بحاجة ألمانيا للمهاجرين من أجل تعويض التناقص الديموغرافي لديها. إلا أنه حسب الاحصائية الرسمية فإن ألمانيا تتناقصت بـ ١٥٠ ألف إنسان السنة الماضية (٢٠١٤)، بينما تستقبل هذا العام حوالي ٨٠٠ ألف لاجئ، في حين لو اقتصر هدف استقبال اللاجئين على سد العجز السكاني لكان من الممكن للحكومة الالمانية أن تفتح باب الهجرة المنتقاة وتختار أفضل الكفاءات من الصين والهند والدول العربية وأوروبا الشرقية. بالاضافة إلى ذلك فإن أوروبا كلها تعاني من الشيخوخة بما فيها الدول التي ترفض استقبال اللاجئين.

قد يحقق قرار تسهيل شؤون اللاجئين مصالح متعددة للدولة الالمانية. كما أن قرار عدم استقبالهم كما تفعل الدنمارك أو بريطانيا، أو استقبال النخب فقط كما تفعل فرنسا وكندا يدرء أيضا مخاطر عديدة. فهناك مخاطر أمنية واجتماعية ومصارف مالية ضخمة ينطوي عليها قرار استقبال لاجئين من ثقافات وبيئات أخرى بأعداد كبيرة. فاستقبال اللاجئين قد يحمل فرص للدولة المضيفة، إلا أن النسبة الغالبة من اللاجئين تحمل معها أزماتها وصراعاتها مما ينقل الصراع والخلاف للدول المضيفة.

والحقيقة أن دوافع الحكومة الالمانية متعددة ومتقاطعة، فهي تتعامل مع موضوع اللاجئين كأزمة داخلية. فبعد وصول مئات الآلاف من اللاجئين إلى أراضيها تسعى السياسات الحكومية للحيلولة دون تحول وجودهم إلى أزمة أكبر في المستقبل نتيجة عدم اندماجهم في المجتمع أو تشكيلهم لمجتمعات موازية ومنغلقة، كما تسعى للتعامل معهم على أنهم فرصة يمكن الاستثمار بهم من أجل دعم سوق العمل والحفاظ على المستوى الاقتصادي المتقدم في ألمانيا. فعلى سبيل المثال في مقابلة أجرتها صحيفة الشبيغل مع "يانينا كوغل" عضو مجلس إدارة شركة سيمنس الالمانية ومسؤولة شؤون العمال فيها والذين يبلغ عددهم ٣٤٠ ألف موظف، اجابت على سؤال "هل تحتاج ألمانيا مهاجرين؟" بما يلي: "حتى عام ٢٠٣٠ سيعاني سوق العمل الالمانية من نقص في الكفاءات المؤهلة يقع ما بين مليونين وسبعة ملايين شخص مؤهل حسب طريقة ومنهجية تصنيف الكفاءة والتأهيل. في جميع الاحول سينعكس ذلك على الاقتصاد الالماني بتناقص في الدخل القومي يقدر بعدة مئات من المليارات". "ألمانيا بحاجة إلى حزمة تشريعات تسهل دخول الكفاءات إلى ألمانيا". وفي حالات الهجرة المرافقة للحروب كما هو الحال في سوريا والعراق اليوم، تكون الهجرة مرتبطة بالطبقة الوسطى في المجتمع، فهي ليست هجرة للشرائح الفقيرة التي تبحث عن حياة أفضل، وإنما هي هجرة كفاءات وأصحاب مؤهلات علمية ومهنية تبحث عن بيئة آمنة كي تبدأ حياتها المنتجة من جديد. النتيجة ستكون كارثية على البلد الاصل حيث أنه سيفقد كفاءاته القادرة على اعادة اعماره، في حين أن البلاد التي ستستقبل هؤلاء اللاجئين يمكن لها الافادة منهم في حال أحسنت ادماجهم في المجتمع وفي سوق العمل. فألمانيا على سبيل المثال تؤمن للاجئ فترة تتراوح ما بين سنتين إلى ثلاثة سنوات من أجل تعلم اللغة ومن أجل اكتساب المؤهلات اللازمة للدخول في سوق العمل.  وحتى في حال عودتهم إلى بلادهم بعد انتهاء الحرب فإنهم سيشكلون جسرا للتواصل والتعاون الاقتصادي بين بلادهم وبين ألمانيا، فمن طبيعي أن يستوردوا لبلادهم التكنولوجيا والآلات والمعرفة الالمانية التي تعلموها وتعودوا عليها. من ناحية أخرى صرحت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل قبل أيام "من حق كل إنسان موجود على الاراضي الالمانية: مواطن، مقيم، لاجئ أو حتى من تم رفض طلب لجوءه أن يتم التعامل معه بكرامة، هذا ما ينص عليه القانون الاساسي في بلادنا". فرغم تباين المواقف الحزبية من قضية اللاجئين إلا أن التحالف الحزبي الحاكم: الحزب الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي لها المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل والحزب الديمقراطي الاشتراكي لم يجد صعوبة في ايجاد صيغة تفاهم للتعامل مع أزمة اللاجئين وذلك لقلة الخيارات المتاحة أمامهم لدى التعاطي مع الدفق البشري الواصل إلى بلادهم باعتباره أزمة داخلية ملحة، وأيضا لتقاطع المصالح فيما بينهم عندما يتم النظر إلى مسألة اللجوء على أنها فرصة يمكن استثمارها. كما انه لا يمكن اهمال دور منظمات المجتمع المدني ومجموعات العمل الاهلي التي شكلت ضغطا على الحكومة الالمانية من أجل تقديم المزيد من المساعدة للاجئين. إلا أن هذا لم يمنع ظهور العديد من الاصوات المعارضة لسياسة الحكومة الحالية المتساهلة مع الاجانب. حيث طالب ماكس شتراوبينغر وهو أحد السياسيين من حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي والذي يشارك في الحكومة الحالية عبر شراكته مع الحزب الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي له المستشارة الالمانية انجيلا ميركل، طالب بإعادة السوريين إلى بلادهم، في حين يعمل الحزب على اعداد خطط اكثر حزما وشدة للتعامل مع اللاجئين. إلا أن هذه الاصوات لا تشكل تيارا واسعا حتى الآن.

والجدير بالذكر أن غالبية الشعب الالماني يرى في خدمة اللاجئين واجب انساني وضريبة رفاهية يجب اداءها لمن لا يمتلك العيش في بلد آمن، خصوصا ان الشعب الالماني تعرض لازمة اللجوء والنزوح وخبِر الآفات المرافقة للحروب. فقد أفرزت أزمة اللاجئين الحالية ظاهرة جديرة بالانتباه وهي المباردة الشعبية العارمة جدا لمساعدة الوافدين الجدد، حيث انتشرت في أغلب المدن الالمانية مبادرات محلية تقوم بتوزيع الطعام والشراب والملابس وحاجات الاطفال على اللاجئين الواصلين للمدن الحدودية أو إلى مراكز اللجوء. كما تناقلت وسائل التواصل الاجتماعية عشرات الصور لمواطنين ألمان يرفعون لافتات ترحب باللاجئين الجدد. رغم تواجد مبادرات مشابهة في أغلب الدول الاوروبية، إلا أن المبادرة الالمانية امتازت بالانتشار الواسع والزخم العالي، حتى أن العديد من مراكز اللجوء اعتذرت عن تسلم المساعدات من الناشطين لعجزها عن ادارة المساعدات نتيجة لضخامة الكميات المرسلة اليهم. كما قامت أغلب الصحف المحلية بدعم هذه المبادرات والتشجيع عليها. فعلى سبيل المثال قامت صحيفة "بيلد" الشهيرة بإطلاق مباردة "نحن نساعد", كما قامت صحيفة دي تسايت بنشر بعض صفحاتها المتضمنة لقصص من حياة اللاجئين باللغة العربية. فمن حيث النتيجة، حتى لو افترضنا بإن الحكومة الالمانية تسعى من خلال سياسات اللجوء المتساهلة أن تخدم عجلة الاقتصاد على المدى البعيد، فإنه لا يمكن تفسير التعاطف الشعبي والمبادرات الاهلية والمدنية لدى عموم الشعب الالماني إلا بالدافع الانساني المجرد.

ويبقى في النهاية لا بد من الاشارة للمفارقات الرهيبة الناشئة في وعي الانسان العربي عندما يشاهد صور الجيش الالماني يبني مساكن للاجئين السوريين الذين قطعوا آلاف الكيلومترات وخاضوا البحار ومروا عبر العديد من الدول كي يهربوا من جيشهم الذي يقتلهم بأسلحة دفعوا ثمنها من قوت أطفالهم. أو الاشارة إلى المفارقات الناجمة عن مشاهدة صور المواطنين الالمان يستقبلون اللاجئين بالورود والافتات الترحيبية والمساعدات الاساسية تعبيرا عن التضامن والمحبة، في حين لا يوجد دولة عربية سوى السودان تسمح للسوري بالدخول إلى أراضيها بدون فيزا يكاد أن يكون الحصول عليها مستحيلا. عدا عن الكم الهائل من التضييق والاهانات التي يتعرض له اللاجئ العربي في أغلب الدول العربية.


 تم نشره على موقع الجزيرة نت في ١٣ أيلول ٢٠١٥ تحت الرابط التالي: اضغط هنا