نهاية الشرق الاوسط كما نعرفه

 

فيما يلي عرض لكتاب "نهاية الشرق الاوسط كما نعرفه" لمؤلفه فولكر بيرتس.

في بدايات القرن العشرين لم يكن من الممكن تصور هذه النهاية الصعبة للجغرافيا السياسية لمنطقة الشرق الاوسط. صدام حسين والقذافي أصبحوا من الماضي، كما أن الحرب على تنظيم داعش استطاعت تقريب المسافات بين ايران والولايات المتحدة، في حين أن سوريا والعراق كوحدات سياسية وكدول مستقلة سيختفون من على الخارطة. باختصار يمكننا أن نقول أن الشرق الاوسط الذي نعرفه قد انتهى، وبالتالي يتوجب علينا اليوم أن نفكر بالمستقبل. بهذه الكلمات يقدم فولكر بيرتس لكتابه الاخير.

وهو الباحث وخبير الشرق الاوسط الشهير الذي يدير مؤسسة العلوم والسياسة في برلين أحد أهم مراكز الدراسات السياسية في أوروبا. له العديد من المؤلفات حول العالم العربي بشكل عام وسوريا بشكل خاص أشهرها كتاب "سوريا تحت حكم بشار الاسد" الذي صدرت له ترجمة عربية عن دار الريس قبل سنوات. كما أنه أحد أعضاء اللجنة الاستشارية للفريق الاممي المكلف بمتابعة الشأن السوري بقيادة المبعوث ستيفان ديمستورا.

مرحلة مابعد سايكس بيكو

صدر الكتاب في شهر آب هذا العام عن دار شوركامب ويقع في ١٤٤ صفحة موزعة على ٦ فصول ومقدمة. يعد الكتاب أقرب لأطروحة أكاديمية تنطلق من فرضية انفراط عقد النظام السياسي الذي حكم المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، وتحاول البحث عن بدائل لهذا النظام المنهار أو استشراف المآلات المتوقعة.

يبدأ الفصل الاول باستعراض الخلفية التاريخية التي أسست للواقع السياسي المتداعي اليوم في الشرق الاوسط ثم تشرح الظروف والبيئة المرافقة للتحولات السياسية الراهنة في المنطقة. فيوضح الكاتب أن أربعة أو خمسة أجيال في المنطقة نشأت على كراهية اتفاقية سايكس بيكو واعتبارها أحد رموز الامبريالية التي لازالت آثارها باقية في المشرق، الامر الذي جعل النضال لإنهاء النظام المترتب على هذه الاتفاقية أمرا محمودا وغاية نبيلة. إلا أنه وبخلاف مرحلة انهيار الدول العثمانية، فإن القوى العظمى اليوم لا تظهر أية رغبة في التدخل المباشر لصناعة نظام جديد في الشرق الاوسط، رغم أنها تتدخل من خلال تكتيكات محدودة للدفاع عن مصالحها، ولكن دون أن تتورط في تدخل شامل قد يتطلب منها تصميم نظام سياسي جديد يعيد التوازن السياسي للمنطقة. كما أن الدول الاقليمية والقوى المحلية تبدو فاقدة للمبادرة ولا تملك تصورات ناضجة عن شكل النظام البديل. وفي غياب الاستقرار السياسي في المنطقة سيكون من الصعب تبلور هويات سياسية مستقرة للمكونات العرقية والطائفية والدينية في المنطقة وبالتالي سيكون التعايش السلمي بين هذه المكونات غير ممكن. وحتى ظهور منظومة سياسية جديدة في المنطقة ستعاني الشعوب من آثار الفوضى والاقتتال الداخلي.

 

ثم يستعرض المؤلف في الفصل الثاني لمسارات الاحداث في دول الربيع العربي محاولا تحليل القوى المحلية الفاعلة والمحركة للاحداث، ثم يخلص إلى أن الثورات العربية هي في أحد أوجهها ثورة جيل حصل على تعليم أفضل وانفتاح أكبر على العالم وفرص أقل على جيل امتلك زمام السلطة والثروة ولم يستطع استيعاب التحولات السريعة في العالم خلال القرن الأخير. وبالتالي فإن كل المنطقة اليوم تمر في مسار عملية تحول ثقافي واجتماعي عميق. وهذا يعني أن ما نشاهده اليوم من فوضى وأزمات ليس إلا البداية فقط. كما أن الدول التي تبدو اليوم مستقرة وفي منأى عن الازمات مثل السعودية العربية وإيران فإنها لن تبقى كذلك بعد عشرين سنة من اليوم إن لم تبادر الدولة نفسها بقيادة التحول في البلاد. كما أن الكاتب يميل للاعتقاد بإن الاصطفافات العرقية والايدولوجية والطائفية في المنطقة هي تابعة للنزاعات والخلافات بين المجموعات الاجتماعية المختلفة وليست نتيجة لصراع الهويات والايديولوجيات. ويدلل على صحة نظريته بأن الشعوب في مصر وتونس رغم انسجامها إثنيا وطائفيا ودينيا ورغم امتلاكها لهوية متبلورة منذ مئات السنين إلا أنها تعاني من انقسامات سياسية حادة. بينما الشعوب في إيران والمغرب منقسمة إثنيا وطائفيا إلا انها لازالت تحافظ على حد أدنى من التفاهم والانسجام. أما في سوريا والعراق يجري استخدام الاختلاف في الهوية والدين من أجل تحقيق مكاسب سياسية كما يفعل نظام الاسد أو كما فعل نوري المالكي أو كما يفعل تنظيم داعش اليوم.

تطور أنساق الجغرافيا السياسية

ثم يتحدث الكاتب في الفصل الثالث "تطور أنساق الجغرافيا السياسية" عن التراجع العسكري الغربي في المنطقة والمرافق في نفس الوقت لتزايد النشاط الديبلوماسي والسياسي للدول الغربية الهادف للحفاظ على مصالحها الحيوية في الاوسط. حيث يوضح الكاتب أن الدول الغربية ليست معنية اليوم بتغيير نظام الحكم في دول المنطقة كما أنها ليست معنية بنصرة أحد الاطراف في صراعها على السطلة ضد الاطراف الاخرى. إلا أن هذا لا يمنع من تدخلات عسكرية محدودة بالتنسيق مع كافة الاطراف لحماية المصالح الاستراتيجية بعيدة المدى كما حصل في التحالف ضد تنظيم داعش أو كما كاد أن يحصل بعد استخدام الاسد للسلاح الكيماوي ضد شعبه. وهذا يعني أن دول المنطقة اليوم تمتلك هامش أكبر من أي وقت مضى للعمل السياسي والديبلوماسي لتحقيق مشاريعها ورؤيتها في المنطقة. الامر الذي تنبهت له النخبة الحاكمة في ايران في وقت مبكر وسعت نتيجة لذلك لملئ الفراغ الذي خلفه الانسحاب الامريكي في العراق أولا وفي باقي المنطقة ثانيا. في حين تراجعت مكانة المملكة العربية السعودية وتراجع دورها خلال العقد الاخير لصالح إيران وحلفائها في المنطقة. ومن اللافت أيضا ظهور دولة قطر كلاعب أقليمي رغم صغر مساحتها وقلة عدد سكانها وحداثة دورها في صناعة الحدث السياسي في المنطقة. ثم يستعرض الكاتب التنافس السني الشيعي في المنطقة والاصطفافات التي خلفها ثم يتعرض للتنافس السني السني بين نموذج الاخوان ونموذج السعودية العربية والاصطفافات التي نتجت عنه وأثرها على دول المنطقة خاصة مصر وما تبع ذلك من اسقاط مرسي، وكذلك أثرها على الصراع في سوريا وما نجم عنه من تمزيق للمعارضة السورية، وكذلك أثر هذه السياسات على علاقات دول الخليج مع تركيا. حيث يعتقد الكاتب أن التنافس السني السني أدى إلى زيادة مستوى الهشاشة في المنطقة وخلق المزيد من الفراغ الذي سعت إيران لملأه.

هل تنظيم داعش هو دولة أم مشروع دولة؟

بعد ذلك يناقش المؤلف في الفصل الرابع فرضية فيما إذا كان تنظيم الدولة (داعش) فعلا دولة؟ حيث يستعرض المؤلف تاريخ هذا التنظيم والمراحل التي مر بها حتى وصل إلى قدراته الحالية. ثم يخلص إلى أن تنظيم داعش هو مشروع بناء دولة، إلا أنها ستكون دولة تستند إلى العنف في فرض سطوتها، بينما تستمد مشروعيتها في عيون أنصارها من تعريفها الضيق للاسلام ومن رفضها لمنظومة الامم المتحدة وللنظام العالمي، الامر الذي سيفرض عليها البقاء في حالة حرب وعزلة عن محيطها.

ثم يقوم في الفصل الخامس برسم السيناريوهات المتوقعة لما يمكن أن يكون عليه المستقبل حيث يستعرض عدة مسارات مختلفة للتطورات في الاقليم. إلا أن ما يجمع بين السيناريوهات على اختلافها هو الاتفاق على صعوبة تصور سوريا والعراق كدول مركزية على كامل حدودها المعروفة وصعوبة تصور عودة حكم الحزب أو الجماعة الواحدة كما كان الحال قبل ٢٠١١. كذلك يعتقد الكاتب بصعوبة استمرار سياسة عدم التدخل البناء من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الاوروبي في أزمات المنطقة. فخروج الصراع عن السيطرة في سوريا والعراق سيجبر هذه القوى على التدخل من أجل محاولة وضع أسس لنظام سياسي جديد في المنطقة. كما أن الغموض لازال يلف كيفية تطور العلاقات السعودية الايرانية خلال السنوات المقبلة، حيث أن السيناريوهات المتوقعة متضاربة للغاية.

 

وفي الفصل الاخير يوجه الدكتور بيرتس مجموعة من النصائح والتوصيات لصانع القرار الاوروبي. لعل أهمها هو دعوته للساسة الغربيين للعب دور وسيط بناء بين إيران والسعودية العربية من أجل بناء الثقة بين البلدين، حيث يعتقد المؤلف أن التقارب بين هاتين الدولتين سيخلق الارضية الضرورية لاعادة الاستقرار للمنطقة. كما أنه يحذر من محاولات اختصار الأزمة في سوريا على أنها حرب ضد الارهاب أو ضد تنظيم الدولة، حيث يطالب الساسة الغربيين بلعب دور أكبر في دعم عملية الانتقال السياسي في سوريا نحو دولة مدنية وديمقراطية.

يعد الكتاب رغم صغر حجمه بلا أدنى شك احد أهم الكتب الصادرة باللغة الالمانية حول المنطقة خلال السنوات الاخيرة، فهو لا يكتفي بسرد الاحداث بل يسعى لتحليل ماوراءها بعمق من أجل استكشاف القوى الكامنة والصيرورات التي ستصنع المستقبل الذي سعى الكتاب لاستشرافه.

 


تم نشره على موقع العربي الجديد في  في ١٤ شباط ٢٠١٦ تحت الرابط التالي: اضغط هنا

 

الكتاب متوفر باللغة الالمانية تحت الرابط التالي:

http://www.amazon.de/Das-Ende-Nahen-Ostens-kennen/dp/3518074423/ref=sr_1_28?s=books&ie=UTF8&qid=1439730664&sr=1-28&keywords=Syrien

 

بيانات الكتاب هي كالتالي:

اسم الكتاب: „نهاية الشرق الاوسط كما نعرفه“

المؤلف: البروفسور الدكتور فولكر بيرتس مدير معهد العلوم والسياسات في برلين

الطبعة الاولى: شهر آب ٢٠١٥

عدد الصفحات ١٤٤ قطع صغير

دار النشر: شوركامب